الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

فى مسألة تكفير أهل الكتاب



هناك فكرة شائعة بين الفقهاء بأنَّ الكفر هو لافتة.. يعنى الواحد لا يُعد كافرًا لأن هذا حقيقة ما في قلبه ..لا.. بل هو كافر بمعنى عكس المؤمن (الذى هو المسلم).. يعنى حتى لو كان ممتنع عن أى فعل له علاقة بالكفر، أو جاهل لا يعرف الألف من كوز الذرة فسيظل كافرًا أيضًا.. وهذا للأسف من العك الذى امتلأت به بعض كتب الفقه.. لأن الكفر هو نظير الإيمان والمقابل له.. فكما أنه من الاستحالة القول بأن فلان آمن بالصدفة أو آمن عن طريق الخطأ (دون أن يدري) فلا يجوز أن نقول ذلك على الكفر أيضًا.. فالكفر فعل إرادي متعمَّد لا يحدث بالصدفة أو الخطأ ..فالكافر لابد أن يعرف ثم ينكر.. خطوتين واضحتين جدا.. يعرف أولاً ثم يُنكر..
 إذن.. ما المقصود بكلمة يعرف.. هل معناها "يأخد خبر"..أو يسمع عن "محمد" وعن "الإسلام" أو ماذا؟
"يعرف" هذه معناها أن يقع فى "يقين" الشخص بأن الإسلام دين الله حقا.. وأن محمدًا رسول الله حقًا أرسله الله ليدعوا الناس إلى عبادته وحده..إلخ. وأن تكون هذه المعرفة يقينية لا يشوبها شك..وقد أوضح الإمام الغزالي معنى العلم اليقيني من هذا النوع بقوله (العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يفارقه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أنا يكون مقارناً لليقين...وكل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني.) فإن كان الشخص اليهودى أو المسيحي يعرف ذلك فى قرارة نفسه فقد صدقت عليه الخطوة الأولى. 
أما الخطوة الثانية التى تجعله كافرًا فعلا هى أن يُنكر كل هذا ويكابر ما يعتقد هو فى قلبه أنه الحق.. وقد أظهر الله ذلك فيمن وصفهم بالكفار من اليهود في زمن الرسول الذين كذّبوه برغم معرفتهم بصدقه وحقيقة رسالته، فقال: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، فمثّل المعرفة اليقينية بمعرفة الإنسان لابنه (حيث من المستبعد الخطأ فى مثل هذا الأمر)، كذلك أوضح الله أن كفار قريش يعتبروا كفارًا لأنهم كانوا يُنكرون دعوة الرسول برغم علمهم بصدق رسالته.. وقد كانوا يقولون عليه أنه كاهن وأنه شاعر وأنه ساحر وأنه مجنون.. وكان الرسول يحزن لوصفه بالكذب بهذه الأوصاف فقال الله له كاشفا حقيقة ما في قلوبهم ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)) .. والجحود هو الانكار..
وبرغم ذلك فقد قسم الفقهاء الكفر وصنفوه و جعلوا له أبوابا ووسعوا دائرته.. بينما الحقيقة أنه لا يخرج عن هذا المعنى الواضح.
أما الآيات التى تكفر النصارى صراحة لها تأويل.. مثلاً:
• (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، الآية بصيغة الماضي (الذين قالوا) وليس (الذين يقولون).. ونفهم الآية من حيث أن المسلمين يؤمنون بأن دين المسيح الحق لا يختلف عن الإسلام حيث أرسل الله عيسى عليه السلام ليدعو خراف بنى إسرائيل الضالة لعبادة الله الواحد.. وثم تناقلت الرسالة جيلا بعد جيل على هذا الاعتقاد حتى جاء "جيل ما" وصلتهم الرسالة الصحيحة فحرفوها متعمدين وسلموها لمن بعدهم محرفة (أى فيها القول بإلوهية المسيح..إلخ) هؤلاء هم من تقصدهم الآية عندما تحدثت بصيغة الماضى وليس من جاؤوا من بعدهم (حتى زماننا هذا) ممن يقلدون ما وصل إليهم دون أن يعلموا الحقيقة..
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌالجزء الأول من الآية يستخدم صيغة الماضى أيضا أي يتكلم عن نفس الجيل الذي وصلته الحقيقة وحرفها.. أما الجزء الثانى من الآية فيؤكد التفسير الذي ذهبنا إليه حيث يتوعد الله فقط "من كفر" ممن يقول بأن الله ثالث ثلاثة.. وليس "كل" من يقول بأن الله ثالث ثلاثة بقوله (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الذين يقولون ذلك. فالله وحده يعلم مَن منهم يعرف الحقيقة فى قلبه ويكفُر بها (تنطبق عليه الخطوتين المطلوبتين للتكفير) ومَن منهم يقلد فقط ما ورثه عن آبائه معتقدًا انه يعبد الله حق العبادة ..دون أن يعلم الحقيقة علم اليقين. ولو حدث وتجاهلنا هذا الفرق الواضح فسنجد أنفسنا نعتقد أن الله سيساوي فى العقاب بين من أراد أن يعبده حق العبادة لكنه ضل الطريق وبين من كان يعرف طريق الحق و طريق الضلال وأصر أن يمشى فى طريق الضلال متعمدًا. وقد جاء بعد هذه الآيات بسورة المائدة في الآية 77 ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ)) حيث تتحدث الآية عن مسيحيِّ زمن الرسالة وتدعوهم لعدم اتباع قومًا عاشوا في الماضى وكانوا على ضلالة وقد أضلوا من جاءوا بعدهم.. وهو ما يؤكد نفس المعنى الذي ذهبنا إليه.. الآية تشير إلى أبناء الجيل الذى جاءتهم رسالة المسيح الصحيحة فحرفوها متعمدين (ضَلُّوا) وسلموها لمن بعدهم مُحرفة (وَأَضَلُّوا).. والغريب العجيب أن معظم الفقهاء قد فسروا الآية على أن هؤلاء القدماء هم اليهود وليس النصارى الذى حرفوا كتابهم برغم أن الآيات كلها تتحدث عن النصارى.. إلا أن بعضهم قد أدرك ذلك كالسُّدِّي . ((حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السُّدِّي" لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم" وضلوا عن سواء السبيل "، عن عَدْل السبيل.
والسؤال الآن: إذا لم يكن المسيحي كافرًا فماذا يكون؟؟
المسيحي يعتبر فاسد المعتقد بالنسبة للمسلم لأنه (وفق الإيمان الإسلامي) يُشرك مع الله آلهة أخرى ..إلخ. أي أنه يسير فى طريق الضلال وهو يعتقد أنه يسير فى طريق الحق.. وهذا لا يُعد كفرًا كما أن من قتل شخصا خطأ لا يستوي هو ومن قتله متعمدًا ..فحقيقة ما في قلب كل واحد من أهل الكتاب هي التي تحدد ما إذا كان كافرًا أو فاسد المعتقد. النظر إلى أهل الكتاب بوصفهم فاسدي المعتقد يشبه اعتقاد معظم الأديان بعضها فى بعض.. فالمسلم فاسد المعتقد من وجهة نظر المسيحية وكذلك المسيحي والمسلم من وجهة نظر اليهودية.. إلخ.
بقى توضيح شيء أخير.. الإسلام فرق بين الحكم على المعتقد الخاص بأهل الكتاب وبين طريقة التعامل معهم.. فجعل طعامهم حلالا والزواج من نسائهم حلالا (عكس طعام كفار الجزيرة العربية ونسائهم) وفي هذا دليل على عدم تساويهم، فلو كانوا سواءً فى الكفر لوجب تحريم أكلهم والزواج منهم كما هو معروف وهذا هو الفرق بين الكتابيّ والكافر.