الجمعة، 13 يناير 2012

السلفية.. وأزمة المنهج




منذ عدة سنوات مضت قرأت حوارا أجرته إحدى المجلات الدينية مع مفتى المملكة العربية السعودية السابق المرحوم الشيخ عبد العزيز بن باز.. وقد استرعى انتباهى حينها إجابته على أحد الأسئلة التى وجهت له.. حيث سأله الصحفى عن مذهبه فقال : مذهبى هما الكتاب والسنة. ولجمال العبارة فقد علقت بذهنى.. غير أننى بعد سنوات أكتشفت مصيبة هذا القول وخطورته. وقد اعتقدت فى أول الأمر أن هذه المصيبة  إنما هى خاصة بالشيخ بن باز وحده.. لكننى ادركت أن هذا الخلل متأصل فى المنهج السلفى كله.وقد أكد لى ذلك عدد ليس بالقليل من المواقف والأفكار والفتاوى التى يطلقها شيوخ التيار السلفى فى كل مناسبة.
وقد كان آخر تلك المناسبات هى دفاع الشيخ محمد عبد المقصود عن نفسه  من تهمة سماع الغناء ، بعد أن انتشر له فيديو بهذا المعنى.وقد لا حظت نفس الخلل يتكرر فى كلام الشيخ عند مقارنة كلامه الأول عن الخلاف فى مسألة جواز الاستماع للغناء وكلامه الثانى عن حرمة ذلك وعقاب من يفعل. حيث ذكر الشيخ - موضحا موقفه - أنه لم يقل أن الغناء حلال وإنما قال من يريد أن يسمع فليسمع ولكن ينتظر عقاب الله فى الآخرة.. واستشهد فى ذلك السياق  بقوله تعالى ( اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) .وحتى نفهم ما هو الخلل الذى اتكلم عنه لابد أولا أن نوضح بعض الأمور.

  • أولا : إن الشريعة التى شرعها الله لنا ليست من الأمور التى تدخل فى باب الإختيار.. فهى لازمة على كل من يسمى نفسه مسلما.. ومن يرفض الشريعة لا يعد مسلما وله مطلق الحرية فى أن يترك الدين الإسلامى تماما.. لكن ليس من حقه أن يبقى مسلما ويغير شرع الله على هواه.
  • ثانيا : الفقه هو فهم علماء الدين للشريعة.. ولا يجوز لمن يجهل العلم الشرعى أن يتكلم فى كتاب الله وسنة رسوله بشىء.. فكونه مسلما لا يكفى كى يجعله مقررا لما يريده الله. لهذا فلا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن ان يتعامل مع الشريعة مباشرة إلا العالم المجتهد المطلق ( أى الذى لا يقلد أى عالم آخر ) مثل أبى حنيفة أو الشافعى أو مالك بن أنس أو الليث بن سعد أو أحمد بن حنبل..الخ. أما من هم دون مرتبة الإجتهاد المطلق - حتى لو كانوا علماء - فهم "مقلدون" .. أى يقلدون ما قاله أصحاب المذاهب المجتهدون ، وذلك بالإتباع أو بالاجتهاد على منهج صاحب المذهب . ولهذا فكل مسلم إما مجتهد أو مقلد.. والغالبية من المسلمين ينتمون للفئة الأخيرة.
  • ثالثا : ونظرا لتعدد المذاهب والمجتهدين فيها فقد وضعت قواعد أصولية للفقه وكيفية أخذه ونقله من الشيخ الى تلاميذه، ومن العالم الى العامى من الناس.. ومن بين تلك القواعد قاعدة تقول " لا يُنكر المختلف فيه.. وإنما يُنكر المتفق عليه ". أى أن المسألة التى يقع فيها الخلاف بين العلماء ( مثل مسألة الغناء ) يجوز للمقلد أن يتبع أو يقلد فيها أى من الشيوخ المعتبرين، دون أن يكون عليه وزر لأنه جاهل بهذا العلم الشريف ( حتى ولو كان متعلما تعليما عاليا أو حاصلا على الدكتوراه مثلا فى أى مجال آخر ).. وكل ما عليه فعله هو أن يقلد من يطمئن قلبه لحجته من العلماء المجتهدين .
  • رابعا : مثل تلك القواعد قد جعلت للعلم الشرعى هيبة.. فلا يتجرأ كل من كان على القول فى كتاب الله أو سنة رسول الله عن جهل ظنا منه أنه يفهم ما يقول..
مما سبق نفهم أننا فى مجال العلم الشرعى لا يوجد لدينا سوى صنفين من العلماء : " مجتهدون"  وهم أصحاب المذاهب.. و"مقلدون" وهم من يجتهدون فى إطار مذهب شيخهم. ولا يوجد من يخرج عن هذه القاعدة أبدا.. فلا يجوز لشيخ أن يقول أنه بلا مذهب.. أو أنه لا يقلد أحدا.. إلا فى حالة واحدة وهى أن يكون له مذهبا منفردا.. ولا يكون ذلك إلا بأن يكون له منهجا جديدا.. وهو غير المتحقق فى حالة الشيخ ابن باز.
أما فى حالة الشيخ عبد المقصود فإنه يهدد من يقلدون العلماء الذين قالوا بجواز سماع الغناء بعذاب الآخرة لأنهم تركوا قول رسول الله لقول العالم " س" أو العالم " ص ".. وهذا يناقض ما ذكرناه سابقا بجواز تقليد أى عالم معتبر دون الخوف من عذاب الآخرة طالما أن المسألة مختلف فيها وطالما أن من يقلد ذلك العالم يعتقد بصحة موقفه.. أى أنه لا ينافق ولا يختار لهوى فى نفسه.وإلا فإن الشيخ يخوفنا النار لأننا لا نقلد الشيوخ الذين يقلدهم هو..بينما لا أفضلية لعالم على آخر فى هذا الأمر..أو ربما يريد منا أن نتجاهل إجتهادات العلماء وننظر نحن بأنفسنا فى الكتاب والسنة ونختار ما نراه صوابا حتى لا نكون تاركين قول رسول الله لكائنا من كان.. وهو ما لا يقبله عقل عاقل.فالشيخ بذلك يناقض أضول الفقه المعروفة التى تقول أن المسلم  على صواب طالما كان مقلدا لشيخ معتبر.. لهذا كانوا يقولون قديما " علقها فى رقبة عالم .. وإطلع سالم " بمعنى أن من يقلد عالما فهو يسير على الحق .. حتى ولو كان هذا العالم مخطئا فى فتواه.. حيث أن له أجرا على إجتهاده.
والحقيقة أن تجاهل السلفية لهذه القواعد جعل أى من كان يظن نفسه عالما يكافىء أبا حنيفة والشافعى .. وانطلق شيوخ السلفية يتكلمون بلا مذهب محتجين فى ذلك بأن المذاهب لم تكن موجودة على زمن الصحابة.. ونسوا أن علوم الحديث والقراءات أيضا لم تكن موجودة زمن الصحابة..وأن تلك القواعد المنهجية التى وضعها العلماء جيلا بعد جيل إنما هى التى حفظت هذه الشريعة من عبث العابثين.. ونقلتها شيخا عن شيخ حتى يومنا هذا.. لهذا يقولون فى الأزهر الشريف : من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان.