الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

فى مسألة تكفير أهل الكتاب



هناك فكرة شائعة بين الفقهاء بأنَّ الكفر هو لافتة.. يعنى الواحد لا يُعد كافرًا لأن هذا حقيقة ما في قلبه ..لا.. بل هو كافر بمعنى عكس المؤمن (الذى هو المسلم).. يعنى حتى لو كان ممتنع عن أى فعل له علاقة بالكفر، أو جاهل لا يعرف الألف من كوز الذرة فسيظل كافرًا أيضًا.. وهذا للأسف من العك الذى امتلأت به بعض كتب الفقه.. لأن الكفر هو نظير الإيمان والمقابل له.. فكما أنه من الاستحالة القول بأن فلان آمن بالصدفة أو آمن عن طريق الخطأ (دون أن يدري) فلا يجوز أن نقول ذلك على الكفر أيضًا.. فالكفر فعل إرادي متعمَّد لا يحدث بالصدفة أو الخطأ ..فالكافر لابد أن يعرف ثم ينكر.. خطوتين واضحتين جدا.. يعرف أولاً ثم يُنكر..
 إذن.. ما المقصود بكلمة يعرف.. هل معناها "يأخد خبر"..أو يسمع عن "محمد" وعن "الإسلام" أو ماذا؟
"يعرف" هذه معناها أن يقع فى "يقين" الشخص بأن الإسلام دين الله حقا.. وأن محمدًا رسول الله حقًا أرسله الله ليدعوا الناس إلى عبادته وحده..إلخ. وأن تكون هذه المعرفة يقينية لا يشوبها شك..وقد أوضح الإمام الغزالي معنى العلم اليقيني من هذا النوع بقوله (العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يفارقه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أنا يكون مقارناً لليقين...وكل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني.) فإن كان الشخص اليهودى أو المسيحي يعرف ذلك فى قرارة نفسه فقد صدقت عليه الخطوة الأولى. 
أما الخطوة الثانية التى تجعله كافرًا فعلا هى أن يُنكر كل هذا ويكابر ما يعتقد هو فى قلبه أنه الحق.. وقد أظهر الله ذلك فيمن وصفهم بالكفار من اليهود في زمن الرسول الذين كذّبوه برغم معرفتهم بصدقه وحقيقة رسالته، فقال: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، فمثّل المعرفة اليقينية بمعرفة الإنسان لابنه (حيث من المستبعد الخطأ فى مثل هذا الأمر)، كذلك أوضح الله أن كفار قريش يعتبروا كفارًا لأنهم كانوا يُنكرون دعوة الرسول برغم علمهم بصدق رسالته.. وقد كانوا يقولون عليه أنه كاهن وأنه شاعر وأنه ساحر وأنه مجنون.. وكان الرسول يحزن لوصفه بالكذب بهذه الأوصاف فقال الله له كاشفا حقيقة ما في قلوبهم ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)) .. والجحود هو الانكار..
وبرغم ذلك فقد قسم الفقهاء الكفر وصنفوه و جعلوا له أبوابا ووسعوا دائرته.. بينما الحقيقة أنه لا يخرج عن هذا المعنى الواضح.
أما الآيات التى تكفر النصارى صراحة لها تأويل.. مثلاً:
• (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، الآية بصيغة الماضي (الذين قالوا) وليس (الذين يقولون).. ونفهم الآية من حيث أن المسلمين يؤمنون بأن دين المسيح الحق لا يختلف عن الإسلام حيث أرسل الله عيسى عليه السلام ليدعو خراف بنى إسرائيل الضالة لعبادة الله الواحد.. وثم تناقلت الرسالة جيلا بعد جيل على هذا الاعتقاد حتى جاء "جيل ما" وصلتهم الرسالة الصحيحة فحرفوها متعمدين وسلموها لمن بعدهم محرفة (أى فيها القول بإلوهية المسيح..إلخ) هؤلاء هم من تقصدهم الآية عندما تحدثت بصيغة الماضى وليس من جاؤوا من بعدهم (حتى زماننا هذا) ممن يقلدون ما وصل إليهم دون أن يعلموا الحقيقة..
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌالجزء الأول من الآية يستخدم صيغة الماضى أيضا أي يتكلم عن نفس الجيل الذي وصلته الحقيقة وحرفها.. أما الجزء الثانى من الآية فيؤكد التفسير الذي ذهبنا إليه حيث يتوعد الله فقط "من كفر" ممن يقول بأن الله ثالث ثلاثة.. وليس "كل" من يقول بأن الله ثالث ثلاثة بقوله (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الذين يقولون ذلك. فالله وحده يعلم مَن منهم يعرف الحقيقة فى قلبه ويكفُر بها (تنطبق عليه الخطوتين المطلوبتين للتكفير) ومَن منهم يقلد فقط ما ورثه عن آبائه معتقدًا انه يعبد الله حق العبادة ..دون أن يعلم الحقيقة علم اليقين. ولو حدث وتجاهلنا هذا الفرق الواضح فسنجد أنفسنا نعتقد أن الله سيساوي فى العقاب بين من أراد أن يعبده حق العبادة لكنه ضل الطريق وبين من كان يعرف طريق الحق و طريق الضلال وأصر أن يمشى فى طريق الضلال متعمدًا. وقد جاء بعد هذه الآيات بسورة المائدة في الآية 77 ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ)) حيث تتحدث الآية عن مسيحيِّ زمن الرسالة وتدعوهم لعدم اتباع قومًا عاشوا في الماضى وكانوا على ضلالة وقد أضلوا من جاءوا بعدهم.. وهو ما يؤكد نفس المعنى الذي ذهبنا إليه.. الآية تشير إلى أبناء الجيل الذى جاءتهم رسالة المسيح الصحيحة فحرفوها متعمدين (ضَلُّوا) وسلموها لمن بعدهم مُحرفة (وَأَضَلُّوا).. والغريب العجيب أن معظم الفقهاء قد فسروا الآية على أن هؤلاء القدماء هم اليهود وليس النصارى الذى حرفوا كتابهم برغم أن الآيات كلها تتحدث عن النصارى.. إلا أن بعضهم قد أدرك ذلك كالسُّدِّي . ((حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السُّدِّي" لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم" وضلوا عن سواء السبيل "، عن عَدْل السبيل.
والسؤال الآن: إذا لم يكن المسيحي كافرًا فماذا يكون؟؟
المسيحي يعتبر فاسد المعتقد بالنسبة للمسلم لأنه (وفق الإيمان الإسلامي) يُشرك مع الله آلهة أخرى ..إلخ. أي أنه يسير فى طريق الضلال وهو يعتقد أنه يسير فى طريق الحق.. وهذا لا يُعد كفرًا كما أن من قتل شخصا خطأ لا يستوي هو ومن قتله متعمدًا ..فحقيقة ما في قلب كل واحد من أهل الكتاب هي التي تحدد ما إذا كان كافرًا أو فاسد المعتقد. النظر إلى أهل الكتاب بوصفهم فاسدي المعتقد يشبه اعتقاد معظم الأديان بعضها فى بعض.. فالمسلم فاسد المعتقد من وجهة نظر المسيحية وكذلك المسيحي والمسلم من وجهة نظر اليهودية.. إلخ.
بقى توضيح شيء أخير.. الإسلام فرق بين الحكم على المعتقد الخاص بأهل الكتاب وبين طريقة التعامل معهم.. فجعل طعامهم حلالا والزواج من نسائهم حلالا (عكس طعام كفار الجزيرة العربية ونسائهم) وفي هذا دليل على عدم تساويهم، فلو كانوا سواءً فى الكفر لوجب تحريم أكلهم والزواج منهم كما هو معروف وهذا هو الفرق بين الكتابيّ والكافر.

الخميس، 27 مارس 2014

حقيقة ثورة يناير

عادة ما تكون التحليلات والتفسيرات الوقتية لأي حادثة تاريخية خاطئة أو غير دقيقة.. خاصة لو كان من يقدم التحليل أحد المشاركين في هذه الحادثة. هذا بالضبط ما حدث معي و مع كثير ممن انفعلوا بثورة 25 يناير و ما تبعها من أحداث..
لقد عشنا هذه الثورة بكل جوارحنا.. وتنسمنا شذى الحرية يهفهف علينا من بعيد.. وقد أخذتنا الأحلام الوردية معها حتى ظننا أنَّنا على أعتاب مرحلة التقدم والرخاء والرقي، وأننا سنتحول إلى أوروبا جديدة في غضون 10 سنوات لا أكثر.
 لكن أيًّا من هذا لم يحدث، لقد أعمتنا حماستنا عن حقيقية ما يحدث في مصر. والآن وبعد مرور 3 سنوات على الثورة أصبحت الرؤية أوضح وأصبحت حقيقة ما حدث ويحدث جليَّة جلاء الشمس وسط نهارٍ صيفيٍّ. وكي نعرف حقيقة ما حدث في 25 يناير و ما بعدها فلابد أن نعود للوراء.. إلى 23 يوليو 1952.
لقد كانت مصر دولة ملكية دستورية.. يحكمها ملك وحكومة منتخبة.. وكانت واقعة تحت احتلال جاهد أن يفسد الحياة السياسية فيها، وأن يُقلِّب أبنائها بعضهم على بعض، وكان جيشها ضعيفًا، وملكها لا يصلح للحكم من الأصل(وإن لم يكن فاسدا بالدرجة التي صورها لنا بعد ذلك إعلام ثورة يوليو)، إلا أنها كنت تعيش مرحلة تنوع سياسية، وليبرالية نسبية سمحت بوجود قادة سياسيين وأحزاب نشيطة و تداول للسلطة، برغم أن تداول السلطة في ظل الاحتلال كان يُساء استخدامه، وكانت الروح الوطنية مفككة- نتيجة الاحتلال- بشكل منع من إقامة صناعات وطنية عملاقة أو عمل مشاريع قومية كبيرة. إلا أنَّ مصر كانت تملك نظاما تعليميًا ممتازا خرَّج أفاضل الناس في مختلف المجالات العلمية والأدبية.
وعندما قام مجموعة من ضباط الجيش بعمل انقلاب عسكري على الملك (أيده الشعب بعد ذلك) وقام بخلع الملك و طرده وتم تعطيل الحياة النيابية و أصبح الحكم كله في يد الجيش الذي سيطر عليه مجلس قيادة الثورة. ولأنَّ الضباط الأحرار لم يكونوا جميعا أبناء فكر واحد ولا يعتنقون أيديولوجيا واحدة: فهناك الليبرالي وهناك الاشتراكي وهناك الشيوعي وهناك الإخواني ..إلخ، فقد وقع بينهم خلاف بعد أن تم تحويل مصر إلى جمهورية، والتخلص من الاحتلال البريطاني. وقد كان جوهر هذا الخلاف هو: هل يُعيد الجيش الديمقراطية والحياة النيابية مرة أخرى، ويعود الجيش إلى ثكناته مُسلمًا السلطة للمدنيين، أم يبقى الوضع على ما هو عليه ويبقى الجيش هو الحاكم الفعلي للبلاد؟؟
وقد كان هناك بعض العناصر المحبة للديمقراطية في مجلس قيادة الثورة، والذين كانوا يرون في أنفسهم جنودا لا حكامًا، لهذا أيدوا عودة الجيش إلى ثكناته. لكن للأسف لم يكن جمال عبد الناصر (الزعيم الحقيقي للثورة) من بين هؤلاء، فقد رأي أن عودة الجيش إلى ثكناته يُعدُّ انتكاسة وعودة للوراء، وكان يرى أن الجيش لابد أن يحكم، وكان له ما أراد. فتم التخلص (بالإكراه أو الإجبار على الاستقالة) من كل من أيد أو دعى إلى فكرة عودة الجيش إلى ثكناته وإقامة حياة نيابية ديمقراطية مثل الرئيس محمد نجيب، أو خالد محي الدين أو يوسف صدِّيق.
وبدءًا من عام 1954 والجيش يحكم مصر بشكل منفرد، حيث يحتكر الجيش منصب رئيس الجمهورية، ويشغل العسكريين السابقين معظم الوظائف العامة المدنية كالوزراء والمحافظين ورؤساء مجالس إدارات الشركات الحكومية ورؤساء الأحياء، بل وحتى رؤساء الإندية الرياضية أحيانا.
وقد بدأ الرئيس عبد الناصر حكمه المعادي للديمقراطية والحياة النيابية بإلقاء مشروع دستور عام 1954 في سلة القمامة؛ نظرا لما يقره من حقوق و حريات، ووضع بدلا منه دستور 1956 الذي كرس لنظام ديمقراطي شكلا ديكتاتوري حقيقةً، وقد وصف الدكتور عبد الرحمن بدوي الفيلسوف الكبير وأحد أعضاء لجنة الخمسين التي وضعت مشروع دستور 54 هذا الموقف قائلاً :((لكن القائمين على الثورة لم يأخذوا به لما فيه من تقرير وضمانات للحريات والحكم الديمقراطي السليم، ووضعوا بدلاً منه دستور سنة 1956 الذي صادر الحريات و كان سندًا للطغيان الذي استقر بعد ذلك لعدة سنوات)).
ونظرًا للتطورات الدولية التي عاشها العالم لم يعد من الممكن قبول الديكتاتوريات الصريحة، فكانت إقامة حياة نيابية شكلية ضرورة لتجميل طبيعة الحكم العسكري في مصر، فأخذ الرئيس السادات هذه الخطوة تقربًا لأمريكا ودول الغرب الديمقراطي، واستمر هذا الحال (ديمقراطية شكلية و ديكتاتورية حقيقية) طوال فترة حكمه وحكم خلفه حسني مبارك، لينتهي الأمر إلى ثورة 25 يناير التي قام بها الشعب غضبا من تردى الأوضاع في آخر فترة حكم مبارك. لكن هذا ما يعرفه الجميع.. لكن ما يحدث في خلفية المشهد أهم.
كان الحكم منذ عام 1952 في يد الجيش كما قلنا.. وكان منصب الرئيس حكرا على العسكريين، وكان هناك أيديولوجيا مزيفة منشورة بين الشعب ترسخ لهذه الحالة السياسية المشوهة، وتدور هذه الأيديولوجيا حول فكرة أن مصر لا يصلح لحكمها إلا العسكريين، وقد تربت أجيال على هذه المقولة واقتنعت بها برغم زيفها و بطلانها، وقد تم الحرص على بقاء المدنيين من التكنوقراط للمساعدة فى الحكم و التخلص في الوقت نفسه من أصحاب الطموحات السياسية منهم حتى لا يشكلون نموذجا مضادًا لنموذج الحاكم العسكري الذي جاهدت السلطة الحاكمة فى مصر طوال سنواتٍ لإرسائه و نشره بين الناس.
لكن الأزمة بدأت عندما حاول حسني مبارك(العسكري) أن يتخلى عن السلطة لابنه جمال(ليس عسكريا)، مما يعنى و لأول مرة فى تاريخ الجمهورية انتقال الحكم من العسكريين إلى المدنيين، وهو الأمر الذي لم يكن سيسمح به الجيش بتاتا.
لهذا، عندما جاءت ثورة يناير وأجبرت حسنى مبارك على التخلى عن منصبه للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، كانت بشكل ما تعيد الأوضاع إلى طبيعتها وتحل الأزمة، ولو كانت الظروف مواتية لكان الرئيس التالى هو الفريق أحمد شفيق، لكن الثورة والغضب الشعبي حال دون ذلك، لهذا حرص المجلس العسكرى على تهدئة الأوضاع بالسماح للإخوان أن يحكموا لفترة وجيزة، لعلمه بغبائهم الشديد، وأن رغبتهم النهمة للحكم وعجبهم بأنفسهم سيجعلهم يعزلون أنفسهم عن كل أصدقائهم و مناصريهم، وهذا بالضبط ما حدث، فقد خان الإخوان الثورة، ولم ينفذوا أي مطلب من مطالبها، واتبعوا مع معارضيهم السياسيين  سياسة "موتوا بغيظكم"، ومع التدهور الاقتصادى الكبير أصبح وضع الإخوان بعد عام واحد مزريًا، وأصبح الحراك الشعبي ضدهم وشيكا، وعندما حدث هذا الحراك تعامل معه الإخوان بشكل أكثر غباءً، وهنا عاد المجلس العسكري إلى الصورة، فأطاح بالإخوان جميعا وتحت رغبة شعبية هذه المرة، ثم تحولت 30 يونيو المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة إلى عملية تأييد ممنهجة لعودة حكم الجيش الذي ظن البعض أنه انتهى من بعد 25 يناير.
إن الأحداث السابقة و الحالية، بل و التالية، لن تثبت لنا إلا حقيقة واحدة: أنَّ مصر كانت و مازالت تحت حكم الجيش منذ عام 1952 وحتى هذه اللحظة، ومهما كان اسم الرئيس القادم، ومهما كانت صفته: عسكريا أو مدنيا، فهو يعمل في ظل نظام حكم عسكري يتبنى الديمقراطية كقشرة براقة يختفي تحتها.
نحن لم نعش الديمقراطية الحقة، ولم نمارسها، ولا أعتقد أنه من المتوقع أن نمارسها في خلال السنوات القادمة، فالديمقراطية الحقة تعنى دولة القانون وكفالة الحقوق والحريات وهو ما افتقدناه و نفتقده حتى اليوم، والراجح أننا سنظل نتأرجح ما بين ديكتاتورية فاشلة اقتصاديا أو ناجحة اقتصاديا. وسيظل المدافعين عن الحقوق والحريات العامة موضع ازدراء وتخوين من عامة الناس الذين تربوا على يد الحكم العسكري.
وأي ثورة قادمة- إن كان هناك ثورة قادمة من الأساس- لن تُغير أكثر من شخص الرئيس ليحل محله غيره.. والذي سيخدم في إطار نفس المنظومة بحماس شديد.

كلما تذكرت كيف كنا نظن بعد 25 يناير أننا لمسنا سماء الحرية بأيدينا.. وأننا أوشكنا على تحقيق الدولة الديمقراطية الحقة..أُدركُ كم كنا سُذَّجا لدرجة الغباء.

الخميس، 14 فبراير 2013

الفلنتاين.. و أخطاء الفتوى

أصبح من الشائع أن تمتلئ صفحات الإنترنت و مواقع التواصل الإجتماعي بل وحتى جدران بعض الشوارع بصور وعبارات تَحُثّ المؤمنين على عدم الاحتفال بـ " الفالنتاين" أو ما نسميه نحن " عيد الحب" .و تُبرر ذلك بأنه - أى الإحتفال - يُخالف الشرع لأن المسلم ليس له إلا عيدين : الفطر والأضحى . وقد بدأت هذه الدعاوى من سنوات مضت كرفضٍ لكل جديد في أول الأمر ، ثم بدأت الخرافة الإجتماعية تضيف عليه بعض المُقَبِّلات كي يستسيغه الناس ويتوقفون عن الإحتفال بالفالنتاين ..فقالوا أنه مُحرَّمٌ لأن فيه تشبهًا باليهود والنصارى ، ثم قالوا أنه مُحرّمٌ لأنه يحثُّ على الرذيلةِ وأخيرًا اتضح أنه مؤامرة صهيونية ماسونية الغرض منها - كالعادة - تدمير الأمة الإسلامية المزدهرة وتحطيمها حضاريًا و أخلاقيًّا!!
لكن هذا كله لا يُعتبر شيئًا جديدًا أو يستحق التوقف عنده .. فقد أصبحت تلك أفكارنا وطريقتنا في التفكير منذ زمن بعيد ، وهي من صور تدهور العقل العربي وسقوطه . وازدهار نظرية المؤامرة بيننا أبلغ دليلٍ على تدهورنا الفكري و انحطاط أسلوبنا في التفكير . 
لكن ما يلفت النظر ، ويدعونا لوقفة تأمل هو صدور فتاوى من شيوخ مشاهير تُحرم عيد الحب استنادًا على آليات خاطئة للفُتْيَة . فنجد من يُحرم الفلنتاين لأنه عيدٌ غير شرعي .. والمسلم لا ينبغى أن يكون له غير عيدين يحتفل بهما ( الفطر والأضحى) . بينما من المعروف أنَّ احتفال الناس بعيد الحب لا تتم بوصفه عيدًا ( طقس ديني) بل تتم بوصفه مناسبةً اجتماعيةً لا أكثر .. لكن يبدو أن هؤلاء المشايخ قد تمسكوا بظاهر الترجمة العربية لكلمة ( Valentine's Day ) فظنوا أن "عيد الحب" عيدٌ فعلي ، وبناء على هذه الفتاوى يمكن تحريم كافة المناسبات الدينية و الوطنية والإجتماعية لمجرد أنها تبدأ بكلمة عيد ، كعيد تحرير سيناء و عيد الأم و عيد المعلم ...الخ . 
بينما الصحيح أن المسلمين كغيرهم من الناس لهم - بالاضافة لعِيدَيْهم - مناسبات دينية كالإحتفال بيوم عاشوراء ( لاحظ تسمية يوم الموجودة في كل من Valentine's Day و عاشوراء ) ، كذلك يوم المولد النبوي أو ليلة القدر ..الخ ، والتى لا يقول أحد بأنها أعياد .. بل مجرد مناسبات دينية . فهل خفي هذا الفرق الواضح بين العيد ( الشعيرة الدينية ) وبين المناسبة ( احتفال دنيوي) على مشايخنا الأفاضل . 
أما السبب الثانى للتحريم فيرجع إلى أن عيد الحب قد اُتُخِذَ مناسبةً لارتكاب المحرمات بين بعض الشباب ، وأنه مفسدة للنشء. 
والسؤال : هل نُحرم استخدام السكاكين لأن البعض يقتل بها .. أو نحرم تناول الدواء لأن في بعضه سُمًّا . ولماذا الخلط في الفتوى بين الإحتفال كمبدأ و بين طريقة الإحتفال . 
وأخيرًا تحريم عيد الحب لأن فيه تشبُّهًا باليهود والنصارى .
وكذلك ارتداء القميص ورابطة العنق ، واستخدام الإنترنت ، و ركوب المترو .. فهل تُحَرَّمُ الأشياء لمجرد أن غير المسلمين يقومون بها .. ألا يعلم مشايخنا أننا في عصر العولمة ، وأن جميع أمم الأرض فى يومنا هذا تتشارك الكثير من العادات والتقاليد في المأكل والملبس و أسلوب الحياة .. وأنَّ التحريم أو التحليل ينبغى أن يقوم عن مدى مخالفة تلك العادات والتقاليد للشرع من عدمه ،وليس لمجرد أن اليهودى أو المسيحى يمارسها مثل المسلم . 
أعتقد أن تجاهل تلك الأمور الواضحة أثناء الفتوى يحرم الأزواج المتحابين من استغلال مناسبة اجتماعية كهذه للاحتفال بحبهما .. ويُضَيِّق واسعًا .. ويُرسخ لفتاوى لا تأخذ إلا بظاهرالنصوص دون فهم لمقاصد الشريعة .    

الأحد، 13 يناير 2013

لِمَاذا حَارَبَ مُحَمَّدٌ والذين مَعَه : كَلِمةٌ في موضوع الجِهَاد

لِماذا الجِهَاد ؟ و هل الجِهَاد هو الحرب وحمل السلاح ؟ ولماذا حَمَلَ الرسول السلاح ومن بعده الصحابة الكرام ؟ ألم تكن الدعوة إلى الإسلام بالحُسْنَى أولَى ؟
كل هذه أسئلة أصبحت مطروحةً في أى مناقشة عن الجهاد في الإسلام .. أو في خضم أى حديثٍ لنفي تهمة الإرهاب عن الدين الإسلامي . و الحقيقة أن كثيرًا من الإجابات لا تكون شافية أو كافية لتوضيح الصورة الكاملة لمعنى المجاهدة والجهاد في الإسلام . ولعل السبب في ذلك يرجع لعدم وعي الكثيرين بفلسفة الجهاد في الإسلام وأسبابها ، فأغلب من أقابلهم أو أناقشهم يتصورون أن كلمة الجهاد تعني حمل السلاح والإغارة على الكفار ( والمقصود بالكفار هنا كل من هو غير مسلمٍ) وأن الهدف من ذلك إمّا أن نُدخلهم في ديننا أو يدفعوا لنا الجزية أو نقتلهم . والحقيقة أنني لم أرى فَهمًا مُشَوَّهًا لرسالة الإسلام أكثر من هذا الفهم .
إنَّ الله لم يرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كي يحصد أرواح الناس حصدًا أو كي يأتي على ما في جيوبهم من مالٍ أو ثروة ، بل أرسله برسالة التوحيد (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ). لهذا فالأصل في هذا الدين هو نشر الإسلام بالدعوة إليه ، بل إن الله قد جعل الإلتزام الأهم لكل رسولٍ هو أن يُبلِّغ الرسالة بغض النظر عن قبول الناس لها من عدمه .. فالحساب يوم القيامة من اختصاص الله وحده .. ودور الرسول أن يُبَلِّغ فقط ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
والسؤال الآن : إذا كان الأمر كذلك .. فلماذا الحرب ؟ ولماذا حَمَلَ الرسول السلاح .. ولماذا يعتبر كثير من المسلمين أن الجهاد في سبيل الله هو الحرب والإغارة على غير المسلمين ؟
 إنَّ  الخطأ الذي سقط فيه كثيرٌ من الناس لعدم قدرتهم على قراءة الواقع ، وتقليدهم لما قاله الفقهاء من ألف سنة أو أكثر (فمن يتصفح الكتب القديمة في الفقه سيجد أن كلمة الجهاد تستخدم كمرادف لكلمة الحرب و تجييش الجيوش لفتح البلاد التى لم يدخلها الإسلام )، ومن هنا فَهَمَ الكثيرون أن الجهاد هو الحرب .. و صبح استخدام كلمات الحرب عند الحديث عن الجهاد أمرًا شائعًا مثل " راية الجهاد" و " نداء الجهاد" و " الدعوة للجهاد" ..الخ . و أصبح رسم شعارات الجهاد في صورة الفارس العربي الذي يحمل راية الرسول السوداء و يمتطي فرسه هي الأكثر ظهورًا عند الكلام عن الجهاد في الإسلام .
و الجهاد " في اللغة ، مأخوذ من الجهد ، وهو بذل الطاقة ، أو الوسع ، أو هو المشقة. وهو في الشرع – عند غالب الفقهاء – قتال المسلمُ الكافرَ ، بعد دعوته إلى الإسلام أو الجزية ، وإبائه "[ د . عبد الله قادري الأهدل ]. و هذا المعنى فيه كثيرٌ من ظروف عصر الفقهاء الذين تصدوا لتعريف الجهاد . وقد قدم لنا ابن تيمية تعريفًا للجهاد حرص فيه أن يكون شاملًا لمعنى السعي لجعل كلمة الله هي العليا بنشر الدعوة بين غير المسلمين فقال : " الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ، ومِنْ دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان " مجموع الفتاوى (10/191-192) . فلو حاولنا أن نفهم سبب حرب الرسول للكفار ومن بعده الصحابة الكرام لفهمنا لماذا أرتبط مفهوم الجهاد فى التاريخ الإسلامي بالحرب . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في قلة من أصحابه في بداية الدعوة ( ما يملأ مدينة واحدة أو أكثر بقليل ) ولم يكن الإسلام هو الدين العالمي الموجود الآن ( 1.5 مليار مسلم تقريبًا ) ، لهذا بدأ الجهاد مرتبطًا بالحرب وقتها للدفاع عن الدعوة الوليدة من محاولات طمسها التى كانت تتكرر على أيدي من كفروا بها . وقد حدد الله لذلك قواعد أشهرها ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) . لكن هذا السبب لم يكن مبررًا لاستمرار القتال ضد غير المسلمين من ملوك الأمم الأخرى .. فهناك كثير من الأمم لم تهاجم دولة الإسلام ولكن المسلمين فتحوها بعد ذلك كمصر ودول شمال إفريقيا و ما وراء النهر ..الخ . فما سبب حرب تلك الدول تحت مسمى الجهاد . السبب أن كل مسلم ملتزمٌ بنشر الإسلام عن طريق الدعوة .. وهذا هو ميراث النبي الذي أورثنا إيَّاه .. أى أننا مطالبون بالتبليغ لكل إنسان على وجه الأرض .. على أن يبقى قرار قبول رسالة الإسلام أو رفضها عائدًا للشخص المُبَلَّغ .. وسيحاسب على قراره هذا يوم القيامة .. لكن هذا الأمر لم يكن سهلا.. ففي زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن الفقهاء الذين ربطوا الجهاد بالحرب ، كان مفهوم التسامح مع المختلف دينيًا غير موجود من الأساس .. وهو ما جعل موقف الملك في أى دولة لا يدين أهلها بالإسلام هو الفيصل في نشر الدعوة من عدمها .. فلو قبل الإسلام دخل فيه ، ودخل معه شعبه .. وإذا رفض وقف للمسلمين كحجر عثرة في طريق دعوتهم فلا هو يدخل الإسلام ولا حتى يسمح لغيره أن يسمع رسالة  الله .. كانه يتخذ قرار الرفض نيابة عن مئات الآلاف من مواطني شعبه . لهذا أصبح لازمًا - في ذلك الوقت - أن يسيطر المسلمون على هذه البلاد سياسيا حتى يتثنَّى لهم الدعوة إلى الإسلام .. مع الإلتزام بعدم إجبار أحد على الدخول في الإسلام . ولعل أبرز نموذج لهذا تارخيا هو فتح المسلمون لمصر .. حيث تُرك كل من يريد البقاء على دينه دون اي مضايقات وهو ما جعل الدخول في الإسلام مقصورًا على نتائج الدعوة والتى أثمرت - بعد 8 قرون - بأن أصبح غالبية السكان من المسلمين . وبسبب تكرار نفس الموقف من أغلب ملوك البلدان  سار المسلمون على نظام ثابت عند فتح أى بلد للدعوة وهو عرض الإسلام ، فإن رُفضَ من الحاكم عُرضت الجزية كحل ، فإن رُفضتْ أيضًا تم اللجوء للحرب كوسيلة للسيطرة السياسية على البلد من أجل نشر الدعوة . وفي حالة قبول الإسلام من الحاكم يبقى في منصبه كما هو ، وهذا أبلغ دليل على عدم طمع المسلمون وقتها فى الحكم أو خيرات البلاد .. بل كان يهمهم نشر الدعوة فقط . ( طبعا حدثت مهازل بعد ذلك وغلب الطمع على كثير من حكام المسلمين الذين استغلوا فكرة الجهاد لخدمة مشروعاتهم الانتهازية لكسب مزيد من الأراضي والأموال لتوسيع ممالكهم - لكن هذا ليس هو الأصل ) . وما يؤكد هذا المعنى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُرسل جيشًا إلى بلدٍ قبل أن يرسل إليها رُسلًا يدعون حاكمها إلى الإسلام ، فمن هؤلاء من كان يستجب لدعوة الإسلام كالنجاشي ملك الحبشة الذي قبل الإسلام عندما أرسل له رسول الله رسالة يدعوه ( لم يرسل له الرسول جيشًا ولا نزعه من مُلكه ) ومنهم من كان يرفض مجرد فكرة الدعوة كشُرحبيل بن عمرو الغساني الذي قتل الحارث بن عمير الأزدي سفير رسول الله إلي ملك بصرى والشام .
ولو أننا عدنا وتأمّلنا فكرة الجهاد سنجد أن تتلخص  من هذه الناحية في مسألة الجد في نشر الإسلام بالدعوة إليه وتعريف الناس به ، وهو الأمر الذي لا يحتاج إلى سيفٍ أو حربٍ .. بل إنّ المبدأ الأساسي عند الرسول هو عدم الإجبار على اعتناق الإسلام .. لأنه لا يجوز عقلًا أن نجبر أحد على الإيمان ، وقد قال الله في هذا مخاطبًا الرسول ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) . وقد نفّذ الرسول هذا المعنى بحذافيره فلم يَرِدْ عنه في أي موقفٍ أن أجبر أحدًا أو هدد أحدًا ليُدخِلَه في الإسلام .. بل ورد عنه عكس ذلك ..فحدث في غزوة ذات الرقاع - من شدة التعب والإعياء - أن تفرق الناس في العضاة يستظلون بالأشجار وأتوا على شجرة ظليلة فتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستظل بظلها فنزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت ظلها وعلق سيفه عليها وتفرق الناس تحت الأشجار وناموا نومة عميقة وفي هذه الأثناء ، وبينما كان الناس متفرقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم لوحده تحت الشجرة تسلل رجل من المشركين فاخترط سيفه وقام فوقه وقال من يمنعك مني يامحمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( الله ) فارتجف الرجل وسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال من يمنعك مني الآن فقال يامحمد كن خير آخذ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال الأعرابي أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى النبي صلى الله عليه وسلم سبيله فذهب إلى قومه فقال ياقوم جئتكم من عند خير الناس.  
فترك رجلًا رفض أن يدخل في الإسلام بعد أن تعهّد ألّا يقاتله أو ينصر عليه ، وهو ما يدل على أن فكرة الإجبار على الإعتقاد لم تكن من سلوكيات الرسول ولا من أدبيات الدعوة المحمدية .
من كل ذلك يظهر لنا الفرق بين الجهاد والقتال ( الكلمتان موجودتان في القرآن ) ، فالأول أوسع من الثاني .. فالقتال ما هو إلا أداة من أدوات الجهاد .. فنشر الدعوة يحتاج إلى السيف كما يحتاج إلى الكلمة . وديننا الحنيف قد أوضح لنا متى وكيف نستخدم السيف ومتى نكتفي بالكلمة . فلو أن بلدًا ( ولتكن أمريكا مثلًا ) تسمح للمسلمين أن يمارسوا نشاطهم الدعوي بلا أي مضايقات .. وتعطي الحرية في بناء المساجد و المراكز الإسلامية للتعريف بالإسلام و تعليم اللغة العربية وهو ما يساعد على جعل كلمة الله هي العليا ( هدف الجهاد الأسمى)  فلأي شيءٍ نستخدم السيف .. وبمن نقتدي لو فعلنا ذلك . 
إن راية الجهاد الحقيقية هي الدعوة إلى الله .. ولا قتال إلا مع من يمنعنا من الدعوة .. وأنَّ له ذلك في عصر الإنترنت و القناوات الفضائية و الحريات المدنية التي باتت مبادئ راسخة لدى معظم دول العالم . 
إن من يعتبرون الجهاد والقتال مترادفتان مخطئون قطعًا ..فالقتال لم يُشرّع إلا بعد الهجرة للمدينة ،أمّا الجهاد فقد بدأ منذ اللحظة الأولى للإسلام .. من أول يوم جلس فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشارف مكة يدعوة الوافدين إلى مكة قائلًا " أقبِل واسمع .. إنْ كان خيرًا قبلته وإن كان شرًا أعرضت عنه " .  
هذا هو الجهاد الحق .. والله أعلى وأعلم.  

الجمعة، 12 أكتوبر 2012

دين الدولة

حرصت معظم الدول العربية ، وبعض الدول الإسلامية ، عند كتابة دساتيرها على إضافة مادة تقول أن الإسلام هو الدين الرسمى للدولة .. وذلك بصيغٍ متعددة إلا أنها كلها تذهب و تفيد نفس المعنى هو أن الدولة لها دين . وقد طرح هذا الأمر تساؤلًا فى نفسى .. ما معنى دين الدولة ؟؟ وهل حقا يمكن لدولة أن يكون لها دين ؟؟
إن موروثنا الفكرى والثقافى يتقبل بأريحية معانى غير واضحة أو متناقضة دون أى غضاضة .. فلا أحد يعترض على القول بأن السعودية دولة مسلمة و أنّ أمريكا دولة مسيحية ..إلخ . والحقيقة أننا لو تأملنا تلك العبارات لوجدناها مليئة بالتناقض و اللا منطقية .
ولكى نكتشف هذا التناقض ..يجب أولا أن نعرف ما هى الدولة ..
الدولة (كتمييز لها عن الأمة أو البلد ) "  تشير إلى مجموعة من مؤسسات الحكم ذات سياده على أرض وسكان محددة" [ويكيبيديا ]. و الدول هى أشهر الكيانات المعنوية أو الإعتبارية .. وهو الوصف القانونى الذى يفرق بين البشر الذين لهم وجود مادى حقيقى وبين المؤسسات والهيئات والدول وباقى الكيانات ذات الوجود الإعتبارى غير الحقيقى .فلا يمكننا مثلا أن نقابل الدولة على المقهى أو أن نصافحها أو نلتقط صورة معها .. فوجودها بالأصل إعتبارى ( على الورق وفى القوانين ) وتمارس سيادة عبر مؤسسات إعتبارية أيضا تدار من خلال مجموعة من الأشخاص الطبيعيين ( البشر) . ومن هنا فالدولة لا يمكن أن يكون لها دين .. وإلا سيدفعنا هذا للتساؤل عن دين باقى الكيانات الإعتبارية  فى العالم مثل الأمم المتحدة (UN) و الإتحاد الدولى لكرة القدم (FIFA ) و محكمة العدل الدولية (ICJ)..إلخ. كما أن قبول فكرة دين الدولة وكأننا نتكلم عن شخص طبيعى تدفعنا للإيمان بأن الله يوم القيامة سيحاسب "الدولة" و يدخلها الجنة أو النار ، وهو ما لا يقبله عقل عاقل .إذن ما معنى أن يكون للدولة دين ؟
الراجح أن من يؤمنون بهذا الوصف يقصدون به  دين الأغلبية من مواطنى هذه الدولة .. أى أن الدولة تكون مسلمة عندما تكون الأغلبية مسلمة وتكون مسيحية عندما تكون الأغلبية كذلك .. وهى فكرة تقوم على المغالبة بالكثرة العددية . والسؤال الآن : ما الفائدة من ذكر دين للدولة ( التى ذكرنا استحالة اعتناقها لدين ) لوصف دين الأغلبية من مواطنيها .. ولماذا لا نكتب أن دين الأغلبية هو كذا فقط ؟ لماذا الإصرار على منح الدولة دين ؟ إن التفكير فى هذه النقطة يدفعنا إلى التسليم بأن تسمية دين للدولة ( الذى تصر عليه الأغلبية عادةً) هو أمر فيه إمتياز لتلك الأغلبية قطعا ، وإلا ما كانت تصرّ عليه . فما هو هذا الإمتياز ؟ هل هو رفع درجة مواطنة المنتمى لدين الأغلبية ( الذى يصبح دين الدولة ) عن ذلك البائس التعيس المعتنق لدين آخر غير دين الأغلبية ؟ وهل لهذا تأثير على فكرة المساواة بين المواطنين التى يقوم عليها الفكر السياسى الحديث ؟ وهل يمكن لدولة ما أن تكون عادلة ( فى حماية الحقوق و أداء الإلتزامات ) وهى تقسم المواطنين إلى معتنقين لدينها وغير معتنقين ؟
إنّ الإجابة عن تلك التساؤلات ستُظهر لنا معنى أن يكون للدولة دين .. ونتائج ذلك على مواطنيها . 

السبت، 18 أغسطس 2012

أزمة المُلحد

كلما سمعت ملحداً أو تناقشت معه أجد نفس الفكرة تتردد فى رأسى . الملحد هو شخص يعيش أزمة فكرية حقيقية . وأعتقد أن السبب فى ذلك أنه لم يستطع أن يكون ملحداً بنسبة 100% ، فهو وإن كان استطاع إن يتخلص من معتقده إلا أنه عجز عن أن يجيب عن كل التساؤلات التى تقابله فى الحياة .. فهو ينكر أشياء يجد الواقع يثبتها أو يشير إليها. وما يزيد من أزمته أن قواعد العقل - التى إتخذها هو نفسه دليلاً ومرجعاً للحكم على أى قضية - أصبحت تعانده وتواجهه و تدفعه إلى التسليم بما كفر به أول الأمر. ويمكننا هنا أن نلخص مظاهر أزمة الملحد فى النقاط الرئيسية التالية :
أولا : الملحد يناقض المنطق وقواعد التفكير السليم.
: فهو لا يقول " يوجد إله وأنا كافرٌ به ".. وإنما يدعى عدم وجود إله من الأساس . وحينما تسأله من فى رأيه هو مُنشئ هذا الكون المنظم تنظيماً بديعاً.. ينسب ذلك إلى الصدفة والتطور العشوائى للموجودات . ولو حاولت أنت أن تقنعه بأنه من الممكن وجود  حجرة صغيرة مرتبة ومنظمة لم يقم بترتيبها أو تنظيمها أحد ، وإنما حدث ذلك بالصدفة ( اتباعاً لنظريته ) لوجدته يستنكر ذلك بشدة . فهو يقبل الأمر الأصعب والأعقد ( نشأة الكون فى نظام ) ويرفض الأمر الصغير البسيط ( ترتيب الحجرة ) ، وهو عوارٌ واضح فى تفكيره .
- ثانيا : يبدو من سلوك الملحد عندنا أنه ليس واثقا من موقفه ..
فهو يتحدث طوال الوقت عن عدم وجود إله ، وبالتالى عن عدم جدوى الأديان ، وعن تزييف الرسل و كذبهم . والعقل يقول عندما تعتقد أنت ذلك فالمفروض ألا تعطى أى إهتمامٍ لتلك الأديان وخرافاتها ، لكنه على النقيض.. يقضى معظم وقته فى سب هذه الأديان ومحاولة إثبات كذبها ، و السخرية منها أو الخوف منها أحياناً ، وكأنه بأفعاله يناقض أقواله .. فما هو غير حقيقى وغير موجود لا ينبغى أن أهتم به إلا إذا كنت أريد أن أعيش فى الأوهام.
- ثالثا : الملحد يتبنى موقفاً ويعجز عن تغييره حتى ولو من أجل مصلحته الشخصية ..
فهو يقرر عدم وجود إله ويقرر ألا يتعبد لأى إله وهمى . بينما معظم الأديان فى العالم تتحدث عن عذاب ينتظر الكافرين. فما الضرر من عبادة إله وهمى ( من المحتمل أن يكون حقيقياً ) كى تأمن غضبه فى الآخرة . وفى ذلك أذكر ما قاله الفيلسوف البرجماتى " وليم جيمس " عندما سُأل : هل تؤمن بوجود إله ؟ فكان رده " أرى من مصلحتى أن أؤمن بوجوده ..فإن كان غير موجود لم أخسر شيئاً فى الآخرة.. لكن لو كفرت به و هو موجود فسيعاقبنى على كفرى يوم القيامة ". فحتى الفكرالنفعى يقود للإيمان وليس الإلحاد .
- رابعاً : الملحد يعتبر أنه يُعمل عقله بينما هو فى واقع الأمر أول من يدهس العقل تحت حذائه.
فهو يشبه الدُجماطيقيين فى تمسكه بفكرة حتى ولو ثبت عوارها .. ويصرّ على السير فى طريق يعلم أنه خاطئ من الناحية العقلية .. فالإنسان منذ الأزل عرف أنه غير قادر على أن يخلق نفسه .. وأن هذه القدرة ( الخلق) لا يملكها .. وأنه كإنسان يشعر بالنقص بسبب ذلك ، وهذا يعنى أن عقله يمتلك صورة للكمال يقارن بها نفسه فتُظهر له نقصه.. وصورة الكمال هذه إنما هى للموجود الأعلى .. الذى يُنكره هو أصلاً. 
- خامساً : يحاول الملحد - دعما لموقفه - أن يربط بين الفردية ونعمة استخدام العقل ، وفكرة التحليق خارج السرب ؛ وبين الإلحاد واللادينية .. والحقيقة أنه لا رابط بينهم .. فمن الممكن أن يبقى الإنسان مسيحيا أو يهودياً أو مسلماً ويفكر بفردية و استقلالية .. والأمثلة على من فعلوا ذلك أكثر من ان تحصى سواءً من بقى منهم على موقف واحد طوال حياته ، أو من غير موقفه منهم من فكر إلى آخر خلال مسيرته الفكرية . 
الخلاصة.. الملحد يدعى العقلانية ولا يحترم أبسط قواعد العقل ، ويدعى السلام الداخلى وهو أكثر الناس أضطرابا وقلقاً ، يتخيل نفسه مدافعاً عن الحريات وهو يسعى حثيثا ( وبنفس طريقة المتدين ) إلى حمل الناس على إعتناق أفكاره أو يحتقرهم ويعتبرهم غنماً فى قطيع الدين . الملحد يعيش أزمة فكرية حقيقية .. والمشكلة أنه مثل المجنون.. لا يشعر ببلواه التى يراها كل الناس..إلا هو.