الثلاثاء، 9 يونيو 2009

"كسوف الفلسفة"


يقول الفيلسوف الألمانى الكبير "مارتن هايدجر":
"أن الفلسفة فكر لا يفيد..فضلا على أنها تثير سخرية العامة"
ولعل "هايدجر " كان يمر بلحظة احباط من تلك التى أعيشها حين نعت الفلسفة-وهو من اكابر رجالاتها- بهذه الصفة القاسية. غير أنى اتفق معه تماما فى مسألة "سخرية العامة" تلك؛ فمعظم من اقابلهم تنفتح شهيتهم للسخرية والهزء حين اتى امامهم على ذكر الفلسفة..لهذ لم اتعجب حين قال لى أحد زملائى السابقين بقسم الفلسفة أنه يخجل أن يصرح بأنه كان طالبا للفلسفة فى يوم من الايام، أو أن شهادته العليا قد حصل عليها فى الفلسفة.

كذلك لم اتعجب حين تصلنى بين وقت واخر أخبار زملاء دفعتى من قسم الفلسفة فأجد منهم من يعمل بمحل فول وفلافل، أو يعمل كسائق تاكسى أو لا يعمل بالمرة. فالفلسفة بالاساس ليس لها من نصيب فى سوق العمل فى مصر الا أن يدرسها الانسان ثم يدرسها (بضم الياء وتشديد الراء) بعد ذلك ، أو أن يكون اكثر طموحا وفكرا ويعكف على التأليف فى مجال الفلسفة( مع الوضع فى الاعتبار أنه عليه أن يبحث عن وظيفة أخرى لا علاقة لها بالفلسفة كى ينفق ويعيش منها) .

وكما أن الفلسفة على المستوى العلمى وعلى مستوى القيمة مظلومة فى عالمنا العربى، كذلك هى فى الحياة العملية ؛ فلو ظن أحد أنه يمكن لمن يشتغل بالفلسفة أو يؤلف فيها أن يقتات من عمله بالتدريس فهو قطعا واهم .فوظيفة مدرس الفلسفة اليوم والتى تكون غالبا بعقد مؤقت لا تمنحك سوى مليمات قليلة لا تسد رمقك ناهيك عن أن تساعدك على البحث ( ذكر لى أحد زملائى أنه جاءته وظيفة مدرس بمنطقة العامرية مقابل 101 جنيه شهريا فى العام الأول على أن تزيد بعد عام الى 202 جنيه، بينما تكلفة المواصلات الشهرية الى العامرية تكلفه 120 جنيه شهريا ..فرفض الوظيفة).

اننى لا الوم اولئك الذين يستمرؤن السخرية والهزء بالفلسفة كلما جاء ذكرها امامهم، ولا الوم أولئك الذين يعيشون حالة "كسوف" من كونهم درسوا الفلسفة ، فليس من المفروض أن يفهم كل الناس الفلسفة أو يشتغلوا بها ..فهى عمل الصفوة..واذا كان بلد مثل مصر يحتاج -مثلا- الى طبيب واحد لكل الف مريض( أى ثمانين الف طبيب لثمانين مليون مواطن) فهو لا يحتاج لأكثر من فيلسوف واحد لكل مليون مواطن ( أى ثمانين فيلسوفا لثمانين مليون مواطن) وذلك فى كل فروع الفلسفة على تنوعها . وكل من هم ازيد من هذا العدد ما هم الا نقلة للفكر الفلسفى، وتنحصر مهمتهم فى تعريف الناس ( باختصار وتبسيط) معنى الفلسفة ومغزاها وتدريبهم وارشادهم الى أن يحترموا أولئك الذين ينيرون لهم الطريق ،ويخطون لهم السبل ،ويعبدون لهم الدروب..أعنى الفلاسفة. وقتها فقط تصبح مقولة " هايدجر " السابقة من التاريخ.