الخميس، 27 مارس 2014

حقيقة ثورة يناير

عادة ما تكون التحليلات والتفسيرات الوقتية لأي حادثة تاريخية خاطئة أو غير دقيقة.. خاصة لو كان من يقدم التحليل أحد المشاركين في هذه الحادثة. هذا بالضبط ما حدث معي و مع كثير ممن انفعلوا بثورة 25 يناير و ما تبعها من أحداث..
لقد عشنا هذه الثورة بكل جوارحنا.. وتنسمنا شذى الحرية يهفهف علينا من بعيد.. وقد أخذتنا الأحلام الوردية معها حتى ظننا أنَّنا على أعتاب مرحلة التقدم والرخاء والرقي، وأننا سنتحول إلى أوروبا جديدة في غضون 10 سنوات لا أكثر.
 لكن أيًّا من هذا لم يحدث، لقد أعمتنا حماستنا عن حقيقية ما يحدث في مصر. والآن وبعد مرور 3 سنوات على الثورة أصبحت الرؤية أوضح وأصبحت حقيقة ما حدث ويحدث جليَّة جلاء الشمس وسط نهارٍ صيفيٍّ. وكي نعرف حقيقة ما حدث في 25 يناير و ما بعدها فلابد أن نعود للوراء.. إلى 23 يوليو 1952.
لقد كانت مصر دولة ملكية دستورية.. يحكمها ملك وحكومة منتخبة.. وكانت واقعة تحت احتلال جاهد أن يفسد الحياة السياسية فيها، وأن يُقلِّب أبنائها بعضهم على بعض، وكان جيشها ضعيفًا، وملكها لا يصلح للحكم من الأصل(وإن لم يكن فاسدا بالدرجة التي صورها لنا بعد ذلك إعلام ثورة يوليو)، إلا أنها كنت تعيش مرحلة تنوع سياسية، وليبرالية نسبية سمحت بوجود قادة سياسيين وأحزاب نشيطة و تداول للسلطة، برغم أن تداول السلطة في ظل الاحتلال كان يُساء استخدامه، وكانت الروح الوطنية مفككة- نتيجة الاحتلال- بشكل منع من إقامة صناعات وطنية عملاقة أو عمل مشاريع قومية كبيرة. إلا أنَّ مصر كانت تملك نظاما تعليميًا ممتازا خرَّج أفاضل الناس في مختلف المجالات العلمية والأدبية.
وعندما قام مجموعة من ضباط الجيش بعمل انقلاب عسكري على الملك (أيده الشعب بعد ذلك) وقام بخلع الملك و طرده وتم تعطيل الحياة النيابية و أصبح الحكم كله في يد الجيش الذي سيطر عليه مجلس قيادة الثورة. ولأنَّ الضباط الأحرار لم يكونوا جميعا أبناء فكر واحد ولا يعتنقون أيديولوجيا واحدة: فهناك الليبرالي وهناك الاشتراكي وهناك الشيوعي وهناك الإخواني ..إلخ، فقد وقع بينهم خلاف بعد أن تم تحويل مصر إلى جمهورية، والتخلص من الاحتلال البريطاني. وقد كان جوهر هذا الخلاف هو: هل يُعيد الجيش الديمقراطية والحياة النيابية مرة أخرى، ويعود الجيش إلى ثكناته مُسلمًا السلطة للمدنيين، أم يبقى الوضع على ما هو عليه ويبقى الجيش هو الحاكم الفعلي للبلاد؟؟
وقد كان هناك بعض العناصر المحبة للديمقراطية في مجلس قيادة الثورة، والذين كانوا يرون في أنفسهم جنودا لا حكامًا، لهذا أيدوا عودة الجيش إلى ثكناته. لكن للأسف لم يكن جمال عبد الناصر (الزعيم الحقيقي للثورة) من بين هؤلاء، فقد رأي أن عودة الجيش إلى ثكناته يُعدُّ انتكاسة وعودة للوراء، وكان يرى أن الجيش لابد أن يحكم، وكان له ما أراد. فتم التخلص (بالإكراه أو الإجبار على الاستقالة) من كل من أيد أو دعى إلى فكرة عودة الجيش إلى ثكناته وإقامة حياة نيابية ديمقراطية مثل الرئيس محمد نجيب، أو خالد محي الدين أو يوسف صدِّيق.
وبدءًا من عام 1954 والجيش يحكم مصر بشكل منفرد، حيث يحتكر الجيش منصب رئيس الجمهورية، ويشغل العسكريين السابقين معظم الوظائف العامة المدنية كالوزراء والمحافظين ورؤساء مجالس إدارات الشركات الحكومية ورؤساء الأحياء، بل وحتى رؤساء الإندية الرياضية أحيانا.
وقد بدأ الرئيس عبد الناصر حكمه المعادي للديمقراطية والحياة النيابية بإلقاء مشروع دستور عام 1954 في سلة القمامة؛ نظرا لما يقره من حقوق و حريات، ووضع بدلا منه دستور 1956 الذي كرس لنظام ديمقراطي شكلا ديكتاتوري حقيقةً، وقد وصف الدكتور عبد الرحمن بدوي الفيلسوف الكبير وأحد أعضاء لجنة الخمسين التي وضعت مشروع دستور 54 هذا الموقف قائلاً :((لكن القائمين على الثورة لم يأخذوا به لما فيه من تقرير وضمانات للحريات والحكم الديمقراطي السليم، ووضعوا بدلاً منه دستور سنة 1956 الذي صادر الحريات و كان سندًا للطغيان الذي استقر بعد ذلك لعدة سنوات)).
ونظرًا للتطورات الدولية التي عاشها العالم لم يعد من الممكن قبول الديكتاتوريات الصريحة، فكانت إقامة حياة نيابية شكلية ضرورة لتجميل طبيعة الحكم العسكري في مصر، فأخذ الرئيس السادات هذه الخطوة تقربًا لأمريكا ودول الغرب الديمقراطي، واستمر هذا الحال (ديمقراطية شكلية و ديكتاتورية حقيقية) طوال فترة حكمه وحكم خلفه حسني مبارك، لينتهي الأمر إلى ثورة 25 يناير التي قام بها الشعب غضبا من تردى الأوضاع في آخر فترة حكم مبارك. لكن هذا ما يعرفه الجميع.. لكن ما يحدث في خلفية المشهد أهم.
كان الحكم منذ عام 1952 في يد الجيش كما قلنا.. وكان منصب الرئيس حكرا على العسكريين، وكان هناك أيديولوجيا مزيفة منشورة بين الشعب ترسخ لهذه الحالة السياسية المشوهة، وتدور هذه الأيديولوجيا حول فكرة أن مصر لا يصلح لحكمها إلا العسكريين، وقد تربت أجيال على هذه المقولة واقتنعت بها برغم زيفها و بطلانها، وقد تم الحرص على بقاء المدنيين من التكنوقراط للمساعدة فى الحكم و التخلص في الوقت نفسه من أصحاب الطموحات السياسية منهم حتى لا يشكلون نموذجا مضادًا لنموذج الحاكم العسكري الذي جاهدت السلطة الحاكمة فى مصر طوال سنواتٍ لإرسائه و نشره بين الناس.
لكن الأزمة بدأت عندما حاول حسني مبارك(العسكري) أن يتخلى عن السلطة لابنه جمال(ليس عسكريا)، مما يعنى و لأول مرة فى تاريخ الجمهورية انتقال الحكم من العسكريين إلى المدنيين، وهو الأمر الذي لم يكن سيسمح به الجيش بتاتا.
لهذا، عندما جاءت ثورة يناير وأجبرت حسنى مبارك على التخلى عن منصبه للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، كانت بشكل ما تعيد الأوضاع إلى طبيعتها وتحل الأزمة، ولو كانت الظروف مواتية لكان الرئيس التالى هو الفريق أحمد شفيق، لكن الثورة والغضب الشعبي حال دون ذلك، لهذا حرص المجلس العسكرى على تهدئة الأوضاع بالسماح للإخوان أن يحكموا لفترة وجيزة، لعلمه بغبائهم الشديد، وأن رغبتهم النهمة للحكم وعجبهم بأنفسهم سيجعلهم يعزلون أنفسهم عن كل أصدقائهم و مناصريهم، وهذا بالضبط ما حدث، فقد خان الإخوان الثورة، ولم ينفذوا أي مطلب من مطالبها، واتبعوا مع معارضيهم السياسيين  سياسة "موتوا بغيظكم"، ومع التدهور الاقتصادى الكبير أصبح وضع الإخوان بعد عام واحد مزريًا، وأصبح الحراك الشعبي ضدهم وشيكا، وعندما حدث هذا الحراك تعامل معه الإخوان بشكل أكثر غباءً، وهنا عاد المجلس العسكري إلى الصورة، فأطاح بالإخوان جميعا وتحت رغبة شعبية هذه المرة، ثم تحولت 30 يونيو المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة إلى عملية تأييد ممنهجة لعودة حكم الجيش الذي ظن البعض أنه انتهى من بعد 25 يناير.
إن الأحداث السابقة و الحالية، بل و التالية، لن تثبت لنا إلا حقيقة واحدة: أنَّ مصر كانت و مازالت تحت حكم الجيش منذ عام 1952 وحتى هذه اللحظة، ومهما كان اسم الرئيس القادم، ومهما كانت صفته: عسكريا أو مدنيا، فهو يعمل في ظل نظام حكم عسكري يتبنى الديمقراطية كقشرة براقة يختفي تحتها.
نحن لم نعش الديمقراطية الحقة، ولم نمارسها، ولا أعتقد أنه من المتوقع أن نمارسها في خلال السنوات القادمة، فالديمقراطية الحقة تعنى دولة القانون وكفالة الحقوق والحريات وهو ما افتقدناه و نفتقده حتى اليوم، والراجح أننا سنظل نتأرجح ما بين ديكتاتورية فاشلة اقتصاديا أو ناجحة اقتصاديا. وسيظل المدافعين عن الحقوق والحريات العامة موضع ازدراء وتخوين من عامة الناس الذين تربوا على يد الحكم العسكري.
وأي ثورة قادمة- إن كان هناك ثورة قادمة من الأساس- لن تُغير أكثر من شخص الرئيس ليحل محله غيره.. والذي سيخدم في إطار نفس المنظومة بحماس شديد.

كلما تذكرت كيف كنا نظن بعد 25 يناير أننا لمسنا سماء الحرية بأيدينا.. وأننا أوشكنا على تحقيق الدولة الديمقراطية الحقة..أُدركُ كم كنا سُذَّجا لدرجة الغباء.