الأحد، 13 يناير 2013

لِمَاذا حَارَبَ مُحَمَّدٌ والذين مَعَه : كَلِمةٌ في موضوع الجِهَاد

لِماذا الجِهَاد ؟ و هل الجِهَاد هو الحرب وحمل السلاح ؟ ولماذا حَمَلَ الرسول السلاح ومن بعده الصحابة الكرام ؟ ألم تكن الدعوة إلى الإسلام بالحُسْنَى أولَى ؟
كل هذه أسئلة أصبحت مطروحةً في أى مناقشة عن الجهاد في الإسلام .. أو في خضم أى حديثٍ لنفي تهمة الإرهاب عن الدين الإسلامي . و الحقيقة أن كثيرًا من الإجابات لا تكون شافية أو كافية لتوضيح الصورة الكاملة لمعنى المجاهدة والجهاد في الإسلام . ولعل السبب في ذلك يرجع لعدم وعي الكثيرين بفلسفة الجهاد في الإسلام وأسبابها ، فأغلب من أقابلهم أو أناقشهم يتصورون أن كلمة الجهاد تعني حمل السلاح والإغارة على الكفار ( والمقصود بالكفار هنا كل من هو غير مسلمٍ) وأن الهدف من ذلك إمّا أن نُدخلهم في ديننا أو يدفعوا لنا الجزية أو نقتلهم . والحقيقة أنني لم أرى فَهمًا مُشَوَّهًا لرسالة الإسلام أكثر من هذا الفهم .
إنَّ الله لم يرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كي يحصد أرواح الناس حصدًا أو كي يأتي على ما في جيوبهم من مالٍ أو ثروة ، بل أرسله برسالة التوحيد (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ). لهذا فالأصل في هذا الدين هو نشر الإسلام بالدعوة إليه ، بل إن الله قد جعل الإلتزام الأهم لكل رسولٍ هو أن يُبلِّغ الرسالة بغض النظر عن قبول الناس لها من عدمه .. فالحساب يوم القيامة من اختصاص الله وحده .. ودور الرسول أن يُبَلِّغ فقط ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
والسؤال الآن : إذا كان الأمر كذلك .. فلماذا الحرب ؟ ولماذا حَمَلَ الرسول السلاح .. ولماذا يعتبر كثير من المسلمين أن الجهاد في سبيل الله هو الحرب والإغارة على غير المسلمين ؟
 إنَّ  الخطأ الذي سقط فيه كثيرٌ من الناس لعدم قدرتهم على قراءة الواقع ، وتقليدهم لما قاله الفقهاء من ألف سنة أو أكثر (فمن يتصفح الكتب القديمة في الفقه سيجد أن كلمة الجهاد تستخدم كمرادف لكلمة الحرب و تجييش الجيوش لفتح البلاد التى لم يدخلها الإسلام )، ومن هنا فَهَمَ الكثيرون أن الجهاد هو الحرب .. و صبح استخدام كلمات الحرب عند الحديث عن الجهاد أمرًا شائعًا مثل " راية الجهاد" و " نداء الجهاد" و " الدعوة للجهاد" ..الخ . و أصبح رسم شعارات الجهاد في صورة الفارس العربي الذي يحمل راية الرسول السوداء و يمتطي فرسه هي الأكثر ظهورًا عند الكلام عن الجهاد في الإسلام .
و الجهاد " في اللغة ، مأخوذ من الجهد ، وهو بذل الطاقة ، أو الوسع ، أو هو المشقة. وهو في الشرع – عند غالب الفقهاء – قتال المسلمُ الكافرَ ، بعد دعوته إلى الإسلام أو الجزية ، وإبائه "[ د . عبد الله قادري الأهدل ]. و هذا المعنى فيه كثيرٌ من ظروف عصر الفقهاء الذين تصدوا لتعريف الجهاد . وقد قدم لنا ابن تيمية تعريفًا للجهاد حرص فيه أن يكون شاملًا لمعنى السعي لجعل كلمة الله هي العليا بنشر الدعوة بين غير المسلمين فقال : " الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ، ومِنْ دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان " مجموع الفتاوى (10/191-192) . فلو حاولنا أن نفهم سبب حرب الرسول للكفار ومن بعده الصحابة الكرام لفهمنا لماذا أرتبط مفهوم الجهاد فى التاريخ الإسلامي بالحرب . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في قلة من أصحابه في بداية الدعوة ( ما يملأ مدينة واحدة أو أكثر بقليل ) ولم يكن الإسلام هو الدين العالمي الموجود الآن ( 1.5 مليار مسلم تقريبًا ) ، لهذا بدأ الجهاد مرتبطًا بالحرب وقتها للدفاع عن الدعوة الوليدة من محاولات طمسها التى كانت تتكرر على أيدي من كفروا بها . وقد حدد الله لذلك قواعد أشهرها ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) . لكن هذا السبب لم يكن مبررًا لاستمرار القتال ضد غير المسلمين من ملوك الأمم الأخرى .. فهناك كثير من الأمم لم تهاجم دولة الإسلام ولكن المسلمين فتحوها بعد ذلك كمصر ودول شمال إفريقيا و ما وراء النهر ..الخ . فما سبب حرب تلك الدول تحت مسمى الجهاد . السبب أن كل مسلم ملتزمٌ بنشر الإسلام عن طريق الدعوة .. وهذا هو ميراث النبي الذي أورثنا إيَّاه .. أى أننا مطالبون بالتبليغ لكل إنسان على وجه الأرض .. على أن يبقى قرار قبول رسالة الإسلام أو رفضها عائدًا للشخص المُبَلَّغ .. وسيحاسب على قراره هذا يوم القيامة .. لكن هذا الأمر لم يكن سهلا.. ففي زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن الفقهاء الذين ربطوا الجهاد بالحرب ، كان مفهوم التسامح مع المختلف دينيًا غير موجود من الأساس .. وهو ما جعل موقف الملك في أى دولة لا يدين أهلها بالإسلام هو الفيصل في نشر الدعوة من عدمها .. فلو قبل الإسلام دخل فيه ، ودخل معه شعبه .. وإذا رفض وقف للمسلمين كحجر عثرة في طريق دعوتهم فلا هو يدخل الإسلام ولا حتى يسمح لغيره أن يسمع رسالة  الله .. كانه يتخذ قرار الرفض نيابة عن مئات الآلاف من مواطني شعبه . لهذا أصبح لازمًا - في ذلك الوقت - أن يسيطر المسلمون على هذه البلاد سياسيا حتى يتثنَّى لهم الدعوة إلى الإسلام .. مع الإلتزام بعدم إجبار أحد على الدخول في الإسلام . ولعل أبرز نموذج لهذا تارخيا هو فتح المسلمون لمصر .. حيث تُرك كل من يريد البقاء على دينه دون اي مضايقات وهو ما جعل الدخول في الإسلام مقصورًا على نتائج الدعوة والتى أثمرت - بعد 8 قرون - بأن أصبح غالبية السكان من المسلمين . وبسبب تكرار نفس الموقف من أغلب ملوك البلدان  سار المسلمون على نظام ثابت عند فتح أى بلد للدعوة وهو عرض الإسلام ، فإن رُفضَ من الحاكم عُرضت الجزية كحل ، فإن رُفضتْ أيضًا تم اللجوء للحرب كوسيلة للسيطرة السياسية على البلد من أجل نشر الدعوة . وفي حالة قبول الإسلام من الحاكم يبقى في منصبه كما هو ، وهذا أبلغ دليل على عدم طمع المسلمون وقتها فى الحكم أو خيرات البلاد .. بل كان يهمهم نشر الدعوة فقط . ( طبعا حدثت مهازل بعد ذلك وغلب الطمع على كثير من حكام المسلمين الذين استغلوا فكرة الجهاد لخدمة مشروعاتهم الانتهازية لكسب مزيد من الأراضي والأموال لتوسيع ممالكهم - لكن هذا ليس هو الأصل ) . وما يؤكد هذا المعنى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُرسل جيشًا إلى بلدٍ قبل أن يرسل إليها رُسلًا يدعون حاكمها إلى الإسلام ، فمن هؤلاء من كان يستجب لدعوة الإسلام كالنجاشي ملك الحبشة الذي قبل الإسلام عندما أرسل له رسول الله رسالة يدعوه ( لم يرسل له الرسول جيشًا ولا نزعه من مُلكه ) ومنهم من كان يرفض مجرد فكرة الدعوة كشُرحبيل بن عمرو الغساني الذي قتل الحارث بن عمير الأزدي سفير رسول الله إلي ملك بصرى والشام .
ولو أننا عدنا وتأمّلنا فكرة الجهاد سنجد أن تتلخص  من هذه الناحية في مسألة الجد في نشر الإسلام بالدعوة إليه وتعريف الناس به ، وهو الأمر الذي لا يحتاج إلى سيفٍ أو حربٍ .. بل إنّ المبدأ الأساسي عند الرسول هو عدم الإجبار على اعتناق الإسلام .. لأنه لا يجوز عقلًا أن نجبر أحد على الإيمان ، وقد قال الله في هذا مخاطبًا الرسول ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) . وقد نفّذ الرسول هذا المعنى بحذافيره فلم يَرِدْ عنه في أي موقفٍ أن أجبر أحدًا أو هدد أحدًا ليُدخِلَه في الإسلام .. بل ورد عنه عكس ذلك ..فحدث في غزوة ذات الرقاع - من شدة التعب والإعياء - أن تفرق الناس في العضاة يستظلون بالأشجار وأتوا على شجرة ظليلة فتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستظل بظلها فنزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت ظلها وعلق سيفه عليها وتفرق الناس تحت الأشجار وناموا نومة عميقة وفي هذه الأثناء ، وبينما كان الناس متفرقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم لوحده تحت الشجرة تسلل رجل من المشركين فاخترط سيفه وقام فوقه وقال من يمنعك مني يامحمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( الله ) فارتجف الرجل وسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال من يمنعك مني الآن فقال يامحمد كن خير آخذ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال الأعرابي أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى النبي صلى الله عليه وسلم سبيله فذهب إلى قومه فقال ياقوم جئتكم من عند خير الناس.  
فترك رجلًا رفض أن يدخل في الإسلام بعد أن تعهّد ألّا يقاتله أو ينصر عليه ، وهو ما يدل على أن فكرة الإجبار على الإعتقاد لم تكن من سلوكيات الرسول ولا من أدبيات الدعوة المحمدية .
من كل ذلك يظهر لنا الفرق بين الجهاد والقتال ( الكلمتان موجودتان في القرآن ) ، فالأول أوسع من الثاني .. فالقتال ما هو إلا أداة من أدوات الجهاد .. فنشر الدعوة يحتاج إلى السيف كما يحتاج إلى الكلمة . وديننا الحنيف قد أوضح لنا متى وكيف نستخدم السيف ومتى نكتفي بالكلمة . فلو أن بلدًا ( ولتكن أمريكا مثلًا ) تسمح للمسلمين أن يمارسوا نشاطهم الدعوي بلا أي مضايقات .. وتعطي الحرية في بناء المساجد و المراكز الإسلامية للتعريف بالإسلام و تعليم اللغة العربية وهو ما يساعد على جعل كلمة الله هي العليا ( هدف الجهاد الأسمى)  فلأي شيءٍ نستخدم السيف .. وبمن نقتدي لو فعلنا ذلك . 
إن راية الجهاد الحقيقية هي الدعوة إلى الله .. ولا قتال إلا مع من يمنعنا من الدعوة .. وأنَّ له ذلك في عصر الإنترنت و القناوات الفضائية و الحريات المدنية التي باتت مبادئ راسخة لدى معظم دول العالم . 
إن من يعتبرون الجهاد والقتال مترادفتان مخطئون قطعًا ..فالقتال لم يُشرّع إلا بعد الهجرة للمدينة ،أمّا الجهاد فقد بدأ منذ اللحظة الأولى للإسلام .. من أول يوم جلس فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشارف مكة يدعوة الوافدين إلى مكة قائلًا " أقبِل واسمع .. إنْ كان خيرًا قبلته وإن كان شرًا أعرضت عنه " .  
هذا هو الجهاد الحق .. والله أعلى وأعلم.