السبت، 30 يوليو 2011

العلمانية والإسلام

يعتقد البعض - بل الكثيرون فى الحقيقة - أن العلمانية هى الخطر الأكبر الذى يتهدد الإسلام.. وهى الفكرة التى تنتشر انتشارا واسعا فى مجتمعنا ، وقد ظهر ذلك بوضوح بعد الثورة حيث أصبح التعبير عن الرأى غير محظور ولا محرم. ولو أنك أجريت استفتاء على هيئة سؤال واحد :  من هو العدو الأكبر للإسلام ؟ فستكون الإجابة بنسبة كبيرة هى العلمانية  . والسؤال الآن : هل حقا العلمانية عدو الإسلام؟ 
الحقيقة أنه لا يوجد دين هو أقرب للفكر العلمانى من الإسلام.. بل إن بعض المفكرين الكبار يرون الإسلام كدين علمانى بكل معنى الكلمة مثل الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور محمد عمارة ( قبل اسلمته). والسبب فى وجود  هذا الرأى يعود إلى أن المحاور الثلاثة المشكلة للفكر العلمانى موجودة أصلا فى الإسلام ؛ فمن يعرفون العلمانية تدور تعريفاتهم حول ثلاثة محاور :
  1. فصل الدين عن الدولة
  2. إعلاء السلطة الزمنية ( الدنيوية) على السلطة الدينية
  3. عدم تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرات دينية
ولو أننا تمعنا النظر لأدركنا أن كل تلك المبادىء موجودة بالإسلام.. فالدين مفصول عن الدولة، بمعنى أن الحاكم فى الدولة المسلمة لا يحكم باسم الله كما كان الحال فى أوروبا المسيحية ، وقد ظهرت هذه الفكرة مع تنصيب الخليفة الأول للرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق.. فالرجل لم يحصل على البيعة بالتوافق بل اختارته الأغلبية فقط ( كان هناك أقلية رافضة منهم سيدنا سعد بن عبادة زعيم الأنصار الذى ترك سقيفة بنى ساعدة غاضبا دون مبايعة ).. وقد أصل هذه الفكرة أبو بكر نفسه حينما أراد أحد المسلمين أن يناديه بقوله " خليفة الله" فقال : لا إنما أنا خليفة رسول الله. أى أنه يرفع عن نفسه صفة القداسة والعلو عن باقى المسلمين. كما أنه أصل لفكرة مراقبة الحاكم أيضا  من قبل الشعب لا من قبل الله للتأكيد على أرادة الشعب وأنه صاحب السيادة " إن أحسنت فأعينونى .. وإن أسأت فقومونى .. فقال له رجل ملوحا بسيفه : لقومناك بسيوفنا " وفى هذا تعبير عن مبدأ الثورة على الحاكم الطاغية أذا ظلم واستبد . فاذا كان الحاكم مختارا من الشعب.. ويراقبه الشعب.. ويعزله الشعب اذا ما طغى.. فهذا ما نسميه الحكم المدنى وهو عكس الحكم الدينى وهو فى الوقت نفسه التطبيق السياسى للفكر العلمانى.
أما مبدأ إعلاء السلطة الزمنية على السلطة الدينية فهو ما تم تطبيقه طوال عصور الحكم الإسلامى.. فولى الأمر له دائما الأختصاص الأعلى ولا سلطة لعلماء الدين على الحاكم ولا يملكون له إلا النصيحة وأن يشوروا عليه أن طلب مشورتهم . والسبب فى ذلك يرجع الى أن الإسلام لم يعرف فكرة سيطرة الكنيسة على الحاكم .. فحين يقول الملك للناس أن الله هو الذى إختاره وهو الذى يحاسبه وهو الذى يخلعه فيصبح مصير الحاكم وشرعيته مرتبطا ومعلقا بيد الله والتى كان المعبر عنها على الأرض الكنيسة.. لهذا تصبح سلطة الكنيسة ( الممثلة لله) هى الأعلى فى الدولة . ولأن الحاكم فى الإسلام - على عكس ذلك - ينتخب من الشعب ويراقب من الشعب ويخلع من الشعب فلا سلطة دينية عليه ولهذا فهو السلطة الأعلى فى الدولة.. وقد شهد الحكم الإسلامى العديد من المواقف التى تدل على اتساع صلاحيات الحاكم فى الدولة المسلمة ، حتى أن ولى الأمر له أن يعطل بعض الأحكام الشرعية لو وجد أنها ستؤدى الى عكس ما أراد المشرع منها مثلما فعل عمربتعطيله لحد السرقة فى عام الرمادة ( لأنه كان سيقطع أيدى الجياع لا اللصوص ) أو تضمين الأمام على بن أبى طالب فى خلافته للصناع(*)  وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الثلاثة لا يضمنونهم  وعندما سألوه فى ذلك قال قولته الشهيرة : لا يصلح الناس إلا هذا . فإعلاء السلطة الزمنية على السلطة الدينية لا يعنى نبذ الدين أو اهماله وإنما عدم وجود تفسيرات بشرية بعينها  للنصوص الشرعية ملزمة لولى الأمر وعدم وجود سلطة أعلى لأحد من الناس على الحاكم .وإنما الأصح أن كل علماء الدين هثلهم مثل باقى المسلمين يسمعون ويطيعون لولى الأمر ولا ينازعونه فى الحكم إلا لو ظلم وبدل ويكونون فى ذلك مثلهم مثل باقى العامة من المسلمين. بقول آخر : إن النموذج الأيرانى لوصاية رجل الدين على الحاكم المسلم لا علاقة له بالإسلام.
أما المبدأ الأخير للعلمانية وهو عدم تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرات دينية فيعنى الإلتزام بوضع تفسيرات تتوافق والقوانين التى وضعها الله للعالم.. فلا نقيس على الشاذ أو الاستثنائى.. فلا يقبل أن يفسر طبيب شرعى مثلا موت إنسان بقوله " إن قضاء الله نفذ".. أو " أن أجله جاء" وإنما يجب أن يشرح بشكل علمى أسباب الوفاة بقوله مثلا " هبوط حاد فى الدورة الدموية تسبب فى توقف عضلة القلب". والسبب فى اتباع هذا الفكر أن الله لا ينتمى إلى عالم الطبيعة.. فعالم الطبيعة هو عالم الملموس والمحسوس والقابل للإختبار فى المعمل أو غيره .. أما الله فهو فوق كل ذلك .. فحين يقبل العلماء بالقاعدة العلمية الشهيرة " المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم " فهم لا ينكرون النشأة الأولى.. وإنما يقرون بقاعدة بسيطة مفادها أن الإنسان لا يقدر على خلق المادة من العدم .. ففعل الخلق فعل إلهى خارج عن قوانين هذا العالم التى هى قوانين الطبيعة.. ونحن ندرس العالم لا ندرس الله عز وجل .. ولأن هذا الفكر من صميم الإسلام فقد فهمه المسلمون الأوائل وصاروا عليه بلا مشكلة وانتجوا للبشرية أعظم الانتاج الفكرى والعلمى دون حرج أو خوف ، كما أن هذا الفكر قد منع ظهور التفسيرات الغيبية واالخزعبلات والدجل المنتشرة بيننا اليوم تحت مسميات إسلامية كالعلاج بالقرآن ،  أو عمل الأحجبة و جلسات الذكر ..الخ.
هذه هى علمانية الإسلام.. فاذا كان الأمر على ذلك من توافق بين العلمانية والإسلام.. فلماذا هذا الصدام بين الأثنين؟
الحقيقة أن السبب فى ذلك يعود إلى أن نموذج العلمانية الأوروبى لا يتناسب مع الإسلام .. وأى محاولة لتطبيق هذا النموذج على أى دولة يشكل المسلمون فيها الأغلبية سيؤدى الى انتهاكات للحقوق الفردية والتى وضعت العلمانية من الأساس كى تحافظ عليها.. ولعل مقارنة بسيطة بين علمانية فرنسا وألمانيا من جانب وعلمانية تركيا المتطرفة من جانب آخر تظهر كيف تتطرف العلمانية الأوروبية  عندما نحاول تطبيقها بالقوة على الاسلام.. والحل أن نأخذ العلمانية من داخل الإسلام.. ونصنع نموذجنا الخاص.. هذا النموذج الذى كنا نطبقه قديما زمن الازدهار الاسلامى .. والذى تخلفنا حين ركنا الى التقليد والجمود والتشدد والتحريم المفرط والأخذ بسد الذرائع واختيار الأحوط حتى تفتت حضارتنا وتدهورنا إلى الحد الذى أصبحنا فيه  نحرم  لبس البرنيطة و التوضوء من ما الصنبور.
--------------------------------------------------
(*) تضمين التجار أى أن يكون التاجر أو الصانع مسؤول عن البضاعة التى تحت يده فإذا ما تلفت يجب أن يسدد ثمنها لصاحبها ، فمثلا لو أنك أعطيت قطعة من القماش للخياط وطلبت منه أن يخيطها جلبابا فأفسدها أو أتلفها فعليه أن يسدد ثمنها لك.