الجمعة، 12 أكتوبر 2012

دين الدولة

حرصت معظم الدول العربية ، وبعض الدول الإسلامية ، عند كتابة دساتيرها على إضافة مادة تقول أن الإسلام هو الدين الرسمى للدولة .. وذلك بصيغٍ متعددة إلا أنها كلها تذهب و تفيد نفس المعنى هو أن الدولة لها دين . وقد طرح هذا الأمر تساؤلًا فى نفسى .. ما معنى دين الدولة ؟؟ وهل حقا يمكن لدولة أن يكون لها دين ؟؟
إن موروثنا الفكرى والثقافى يتقبل بأريحية معانى غير واضحة أو متناقضة دون أى غضاضة .. فلا أحد يعترض على القول بأن السعودية دولة مسلمة و أنّ أمريكا دولة مسيحية ..إلخ . والحقيقة أننا لو تأملنا تلك العبارات لوجدناها مليئة بالتناقض و اللا منطقية .
ولكى نكتشف هذا التناقض ..يجب أولا أن نعرف ما هى الدولة ..
الدولة (كتمييز لها عن الأمة أو البلد ) "  تشير إلى مجموعة من مؤسسات الحكم ذات سياده على أرض وسكان محددة" [ويكيبيديا ]. و الدول هى أشهر الكيانات المعنوية أو الإعتبارية .. وهو الوصف القانونى الذى يفرق بين البشر الذين لهم وجود مادى حقيقى وبين المؤسسات والهيئات والدول وباقى الكيانات ذات الوجود الإعتبارى غير الحقيقى .فلا يمكننا مثلا أن نقابل الدولة على المقهى أو أن نصافحها أو نلتقط صورة معها .. فوجودها بالأصل إعتبارى ( على الورق وفى القوانين ) وتمارس سيادة عبر مؤسسات إعتبارية أيضا تدار من خلال مجموعة من الأشخاص الطبيعيين ( البشر) . ومن هنا فالدولة لا يمكن أن يكون لها دين .. وإلا سيدفعنا هذا للتساؤل عن دين باقى الكيانات الإعتبارية  فى العالم مثل الأمم المتحدة (UN) و الإتحاد الدولى لكرة القدم (FIFA ) و محكمة العدل الدولية (ICJ)..إلخ. كما أن قبول فكرة دين الدولة وكأننا نتكلم عن شخص طبيعى تدفعنا للإيمان بأن الله يوم القيامة سيحاسب "الدولة" و يدخلها الجنة أو النار ، وهو ما لا يقبله عقل عاقل .إذن ما معنى أن يكون للدولة دين ؟
الراجح أن من يؤمنون بهذا الوصف يقصدون به  دين الأغلبية من مواطنى هذه الدولة .. أى أن الدولة تكون مسلمة عندما تكون الأغلبية مسلمة وتكون مسيحية عندما تكون الأغلبية كذلك .. وهى فكرة تقوم على المغالبة بالكثرة العددية . والسؤال الآن : ما الفائدة من ذكر دين للدولة ( التى ذكرنا استحالة اعتناقها لدين ) لوصف دين الأغلبية من مواطنيها .. ولماذا لا نكتب أن دين الأغلبية هو كذا فقط ؟ لماذا الإصرار على منح الدولة دين ؟ إن التفكير فى هذه النقطة يدفعنا إلى التسليم بأن تسمية دين للدولة ( الذى تصر عليه الأغلبية عادةً) هو أمر فيه إمتياز لتلك الأغلبية قطعا ، وإلا ما كانت تصرّ عليه . فما هو هذا الإمتياز ؟ هل هو رفع درجة مواطنة المنتمى لدين الأغلبية ( الذى يصبح دين الدولة ) عن ذلك البائس التعيس المعتنق لدين آخر غير دين الأغلبية ؟ وهل لهذا تأثير على فكرة المساواة بين المواطنين التى يقوم عليها الفكر السياسى الحديث ؟ وهل يمكن لدولة ما أن تكون عادلة ( فى حماية الحقوق و أداء الإلتزامات ) وهى تقسم المواطنين إلى معتنقين لدينها وغير معتنقين ؟
إنّ الإجابة عن تلك التساؤلات ستُظهر لنا معنى أن يكون للدولة دين .. ونتائج ذلك على مواطنيها . 

السبت، 18 أغسطس 2012

أزمة المُلحد

كلما سمعت ملحداً أو تناقشت معه أجد نفس الفكرة تتردد فى رأسى . الملحد هو شخص يعيش أزمة فكرية حقيقية . وأعتقد أن السبب فى ذلك أنه لم يستطع أن يكون ملحداً بنسبة 100% ، فهو وإن كان استطاع إن يتخلص من معتقده إلا أنه عجز عن أن يجيب عن كل التساؤلات التى تقابله فى الحياة .. فهو ينكر أشياء يجد الواقع يثبتها أو يشير إليها. وما يزيد من أزمته أن قواعد العقل - التى إتخذها هو نفسه دليلاً ومرجعاً للحكم على أى قضية - أصبحت تعانده وتواجهه و تدفعه إلى التسليم بما كفر به أول الأمر. ويمكننا هنا أن نلخص مظاهر أزمة الملحد فى النقاط الرئيسية التالية :
أولا : الملحد يناقض المنطق وقواعد التفكير السليم.
: فهو لا يقول " يوجد إله وأنا كافرٌ به ".. وإنما يدعى عدم وجود إله من الأساس . وحينما تسأله من فى رأيه هو مُنشئ هذا الكون المنظم تنظيماً بديعاً.. ينسب ذلك إلى الصدفة والتطور العشوائى للموجودات . ولو حاولت أنت أن تقنعه بأنه من الممكن وجود  حجرة صغيرة مرتبة ومنظمة لم يقم بترتيبها أو تنظيمها أحد ، وإنما حدث ذلك بالصدفة ( اتباعاً لنظريته ) لوجدته يستنكر ذلك بشدة . فهو يقبل الأمر الأصعب والأعقد ( نشأة الكون فى نظام ) ويرفض الأمر الصغير البسيط ( ترتيب الحجرة ) ، وهو عوارٌ واضح فى تفكيره .
- ثانيا : يبدو من سلوك الملحد عندنا أنه ليس واثقا من موقفه ..
فهو يتحدث طوال الوقت عن عدم وجود إله ، وبالتالى عن عدم جدوى الأديان ، وعن تزييف الرسل و كذبهم . والعقل يقول عندما تعتقد أنت ذلك فالمفروض ألا تعطى أى إهتمامٍ لتلك الأديان وخرافاتها ، لكنه على النقيض.. يقضى معظم وقته فى سب هذه الأديان ومحاولة إثبات كذبها ، و السخرية منها أو الخوف منها أحياناً ، وكأنه بأفعاله يناقض أقواله .. فما هو غير حقيقى وغير موجود لا ينبغى أن أهتم به إلا إذا كنت أريد أن أعيش فى الأوهام.
- ثالثا : الملحد يتبنى موقفاً ويعجز عن تغييره حتى ولو من أجل مصلحته الشخصية ..
فهو يقرر عدم وجود إله ويقرر ألا يتعبد لأى إله وهمى . بينما معظم الأديان فى العالم تتحدث عن عذاب ينتظر الكافرين. فما الضرر من عبادة إله وهمى ( من المحتمل أن يكون حقيقياً ) كى تأمن غضبه فى الآخرة . وفى ذلك أذكر ما قاله الفيلسوف البرجماتى " وليم جيمس " عندما سُأل : هل تؤمن بوجود إله ؟ فكان رده " أرى من مصلحتى أن أؤمن بوجوده ..فإن كان غير موجود لم أخسر شيئاً فى الآخرة.. لكن لو كفرت به و هو موجود فسيعاقبنى على كفرى يوم القيامة ". فحتى الفكرالنفعى يقود للإيمان وليس الإلحاد .
- رابعاً : الملحد يعتبر أنه يُعمل عقله بينما هو فى واقع الأمر أول من يدهس العقل تحت حذائه.
فهو يشبه الدُجماطيقيين فى تمسكه بفكرة حتى ولو ثبت عوارها .. ويصرّ على السير فى طريق يعلم أنه خاطئ من الناحية العقلية .. فالإنسان منذ الأزل عرف أنه غير قادر على أن يخلق نفسه .. وأن هذه القدرة ( الخلق) لا يملكها .. وأنه كإنسان يشعر بالنقص بسبب ذلك ، وهذا يعنى أن عقله يمتلك صورة للكمال يقارن بها نفسه فتُظهر له نقصه.. وصورة الكمال هذه إنما هى للموجود الأعلى .. الذى يُنكره هو أصلاً. 
- خامساً : يحاول الملحد - دعما لموقفه - أن يربط بين الفردية ونعمة استخدام العقل ، وفكرة التحليق خارج السرب ؛ وبين الإلحاد واللادينية .. والحقيقة أنه لا رابط بينهم .. فمن الممكن أن يبقى الإنسان مسيحيا أو يهودياً أو مسلماً ويفكر بفردية و استقلالية .. والأمثلة على من فعلوا ذلك أكثر من ان تحصى سواءً من بقى منهم على موقف واحد طوال حياته ، أو من غير موقفه منهم من فكر إلى آخر خلال مسيرته الفكرية . 
الخلاصة.. الملحد يدعى العقلانية ولا يحترم أبسط قواعد العقل ، ويدعى السلام الداخلى وهو أكثر الناس أضطرابا وقلقاً ، يتخيل نفسه مدافعاً عن الحريات وهو يسعى حثيثا ( وبنفس طريقة المتدين ) إلى حمل الناس على إعتناق أفكاره أو يحتقرهم ويعتبرهم غنماً فى قطيع الدين . الملحد يعيش أزمة فكرية حقيقية .. والمشكلة أنه مثل المجنون.. لا يشعر ببلواه التى يراها كل الناس..إلا هو.

الجمعة، 13 يناير 2012

السلفية.. وأزمة المنهج




منذ عدة سنوات مضت قرأت حوارا أجرته إحدى المجلات الدينية مع مفتى المملكة العربية السعودية السابق المرحوم الشيخ عبد العزيز بن باز.. وقد استرعى انتباهى حينها إجابته على أحد الأسئلة التى وجهت له.. حيث سأله الصحفى عن مذهبه فقال : مذهبى هما الكتاب والسنة. ولجمال العبارة فقد علقت بذهنى.. غير أننى بعد سنوات أكتشفت مصيبة هذا القول وخطورته. وقد اعتقدت فى أول الأمر أن هذه المصيبة  إنما هى خاصة بالشيخ بن باز وحده.. لكننى ادركت أن هذا الخلل متأصل فى المنهج السلفى كله.وقد أكد لى ذلك عدد ليس بالقليل من المواقف والأفكار والفتاوى التى يطلقها شيوخ التيار السلفى فى كل مناسبة.
وقد كان آخر تلك المناسبات هى دفاع الشيخ محمد عبد المقصود عن نفسه  من تهمة سماع الغناء ، بعد أن انتشر له فيديو بهذا المعنى.وقد لا حظت نفس الخلل يتكرر فى كلام الشيخ عند مقارنة كلامه الأول عن الخلاف فى مسألة جواز الاستماع للغناء وكلامه الثانى عن حرمة ذلك وعقاب من يفعل. حيث ذكر الشيخ - موضحا موقفه - أنه لم يقل أن الغناء حلال وإنما قال من يريد أن يسمع فليسمع ولكن ينتظر عقاب الله فى الآخرة.. واستشهد فى ذلك السياق  بقوله تعالى ( اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) .وحتى نفهم ما هو الخلل الذى اتكلم عنه لابد أولا أن نوضح بعض الأمور.

  • أولا : إن الشريعة التى شرعها الله لنا ليست من الأمور التى تدخل فى باب الإختيار.. فهى لازمة على كل من يسمى نفسه مسلما.. ومن يرفض الشريعة لا يعد مسلما وله مطلق الحرية فى أن يترك الدين الإسلامى تماما.. لكن ليس من حقه أن يبقى مسلما ويغير شرع الله على هواه.
  • ثانيا : الفقه هو فهم علماء الدين للشريعة.. ولا يجوز لمن يجهل العلم الشرعى أن يتكلم فى كتاب الله وسنة رسوله بشىء.. فكونه مسلما لا يكفى كى يجعله مقررا لما يريده الله. لهذا فلا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن ان يتعامل مع الشريعة مباشرة إلا العالم المجتهد المطلق ( أى الذى لا يقلد أى عالم آخر ) مثل أبى حنيفة أو الشافعى أو مالك بن أنس أو الليث بن سعد أو أحمد بن حنبل..الخ. أما من هم دون مرتبة الإجتهاد المطلق - حتى لو كانوا علماء - فهم "مقلدون" .. أى يقلدون ما قاله أصحاب المذاهب المجتهدون ، وذلك بالإتباع أو بالاجتهاد على منهج صاحب المذهب . ولهذا فكل مسلم إما مجتهد أو مقلد.. والغالبية من المسلمين ينتمون للفئة الأخيرة.
  • ثالثا : ونظرا لتعدد المذاهب والمجتهدين فيها فقد وضعت قواعد أصولية للفقه وكيفية أخذه ونقله من الشيخ الى تلاميذه، ومن العالم الى العامى من الناس.. ومن بين تلك القواعد قاعدة تقول " لا يُنكر المختلف فيه.. وإنما يُنكر المتفق عليه ". أى أن المسألة التى يقع فيها الخلاف بين العلماء ( مثل مسألة الغناء ) يجوز للمقلد أن يتبع أو يقلد فيها أى من الشيوخ المعتبرين، دون أن يكون عليه وزر لأنه جاهل بهذا العلم الشريف ( حتى ولو كان متعلما تعليما عاليا أو حاصلا على الدكتوراه مثلا فى أى مجال آخر ).. وكل ما عليه فعله هو أن يقلد من يطمئن قلبه لحجته من العلماء المجتهدين .
  • رابعا : مثل تلك القواعد قد جعلت للعلم الشرعى هيبة.. فلا يتجرأ كل من كان على القول فى كتاب الله أو سنة رسول الله عن جهل ظنا منه أنه يفهم ما يقول..
مما سبق نفهم أننا فى مجال العلم الشرعى لا يوجد لدينا سوى صنفين من العلماء : " مجتهدون"  وهم أصحاب المذاهب.. و"مقلدون" وهم من يجتهدون فى إطار مذهب شيخهم. ولا يوجد من يخرج عن هذه القاعدة أبدا.. فلا يجوز لشيخ أن يقول أنه بلا مذهب.. أو أنه لا يقلد أحدا.. إلا فى حالة واحدة وهى أن يكون له مذهبا منفردا.. ولا يكون ذلك إلا بأن يكون له منهجا جديدا.. وهو غير المتحقق فى حالة الشيخ ابن باز.
أما فى حالة الشيخ عبد المقصود فإنه يهدد من يقلدون العلماء الذين قالوا بجواز سماع الغناء بعذاب الآخرة لأنهم تركوا قول رسول الله لقول العالم " س" أو العالم " ص ".. وهذا يناقض ما ذكرناه سابقا بجواز تقليد أى عالم معتبر دون الخوف من عذاب الآخرة طالما أن المسألة مختلف فيها وطالما أن من يقلد ذلك العالم يعتقد بصحة موقفه.. أى أنه لا ينافق ولا يختار لهوى فى نفسه.وإلا فإن الشيخ يخوفنا النار لأننا لا نقلد الشيوخ الذين يقلدهم هو..بينما لا أفضلية لعالم على آخر فى هذا الأمر..أو ربما يريد منا أن نتجاهل إجتهادات العلماء وننظر نحن بأنفسنا فى الكتاب والسنة ونختار ما نراه صوابا حتى لا نكون تاركين قول رسول الله لكائنا من كان.. وهو ما لا يقبله عقل عاقل.فالشيخ بذلك يناقض أضول الفقه المعروفة التى تقول أن المسلم  على صواب طالما كان مقلدا لشيخ معتبر.. لهذا كانوا يقولون قديما " علقها فى رقبة عالم .. وإطلع سالم " بمعنى أن من يقلد عالما فهو يسير على الحق .. حتى ولو كان هذا العالم مخطئا فى فتواه.. حيث أن له أجرا على إجتهاده.
والحقيقة أن تجاهل السلفية لهذه القواعد جعل أى من كان يظن نفسه عالما يكافىء أبا حنيفة والشافعى .. وانطلق شيوخ السلفية يتكلمون بلا مذهب محتجين فى ذلك بأن المذاهب لم تكن موجودة على زمن الصحابة.. ونسوا أن علوم الحديث والقراءات أيضا لم تكن موجودة زمن الصحابة..وأن تلك القواعد المنهجية التى وضعها العلماء جيلا بعد جيل إنما هى التى حفظت هذه الشريعة من عبث العابثين.. ونقلتها شيخا عن شيخ حتى يومنا هذا.. لهذا يقولون فى الأزهر الشريف : من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان.