الاثنين، 25 أبريل 2011

الجدل البيزانطى

أصبح من المعتاد اليوم أن ترى كل من هب ودب يتحدث فى أى علم من العلوم وكأنه العالم العلامة والخبير الأريب .. وأصبح التنظير مهنة من لا مهنة له ، حتى بات العالم الحق - الذى غالبا ما يكون مختلفا مع الأخرين - جاهلا ولا يفقه شىء فيما يتكلم. وقد حدث ذلك ولا يزال يحدث اليوم فيما يخص الحديث عن الأيديولوجيات.. فأصبحنا بعد الثورة نكثر الكلام عن الليبرالية والاشتراكية والعلمانية والديمقراطية والدولة الدينية أو المدنية .. ليس بغرض نشر العلم بين الناس وانما بغرض استمالة أكبر عدد ممكن منهم لهذه الأيديولوجيا أو تلك، أو تنفيرهم من هذه أو تلك. 
وقد اثرت الصمت والتأمل فيما يجرى حتى استطيع أن أكون رأيا فيما يحدث ؛ فقد كنت غير واثق من مدى ايجابية الأمر وهل هو ظاهرة صحية أم لا. غير أننى اكتشفت مؤخرا حقيقة المهزلة التى نعيشها اليوم؛ فحين أسمع " س" من المشايخ يقول أن الليبرالية هى ألا ترتدى المرأة الحجاب وأن يتزوج الرجل من رجل .. وأسمع من يهاجمون الدولة المدنية بوصفها دولة الزنى والشذوذ وأنها تهدف الى تدمير العقيدة ..  أو يقف خطيب فى أحد المساجد التى اعتدت الصلاة فيها قائلا : " هل تعلمون ما المواطنة .. انها اختلاط المسلم بغير المسلم حتى لا نعرف المسلم من غير المسلم" .هنا يجب أن نتوقف ونرد.. فالسكوت فى مثل تلك الحالات قد يكون علامة الرضا.
وأقول أن سبب ما نراه من حالة استهتار بالعلم انما يرجع للاتى:
  •  ما نعيشه من ظاهرة فوضى التعريفات والجرئة فى الخوض فى ادق المسائل العلمية أو الفلسفية دون خلفية دراسية تذكر هى كارثة بمعنى الكلمة.. خاصة وأن عددا معتبرا من أبناء مصر لا يقرأون ولا يكتبون .. وعددا كبيرا ممن يقرأون ويكتبون ويحملون شهادات جامعية لا تتجاوز ثقافتهم ثقافة طالب فى الصف الثانى الاعدادى.. وهو الأمر الذى يجعل الغالبية الكاسحة من الشعب المصرى غير مؤهلة للخوض فى معظم الموضوعات الفلسفية المعقدة المطروحة على طاولة النقاش اليوم.
  • أن معظم من يتحدثون فى تلك المسائل لا يتحدثون من ناحية تعليمية وانما انطلاقا من تحرك ايديولوجى الغرض منه جذب مزيد من الأنصار؛ فالعلمانى يريدك علمانيا والسلفى يريدك سلفيا والليبرالي يريدك ليبراليا والاشتراكى يريدك اشتراكيا.. فلا أحد يشرح لك ما استغلق عليك ويترك لك بعد ذلك الأختيار .. ولا أحد منهم يحدثك عن مذهبه وفكره بغرض الترويج له ويكتفى بذلك..  وانما يتجاوز ذلك بالحديث عن الفكر المضاد مقللا من قدره.. ومشوها له قدر المستطاع.. وكل ذلك بهدف جذب مزيد من الأنصار.
  •  اختفاء أدب الحوار والنقاش.. فما ان تبدأ فى المناقشة حتى تجد مناقشك وقد أصابه الملل والضيق وانحرف عن الحديث فى موضوع  المناقشة الى التشكيك فى عقلك وذمتك وعقيدتك.. بل الان الوضع قد ازداد سوءا بأن أصبحت بعض الهويات أو المذاهب سبة فى نظر البعض ؛ فيكفى اليوم أن تصف " س" من الناس بأنه صوفى أو سلفى أو علمانى أو ليبرالي .. هكذا بلا أضافات لتعنى بها أنه ضال أو كافر أو فاسق أو خسيس أو منحل.. وبهذا أصبحنا الأمة الوحيدة على وجه الأرض التى غيرت معانى المصطلحات العلمية ،وأعطتها معان شعبية جديدة لا علاقة لها بالمضمون الأصلى لتلك المفاهيم. وهذا فضلا عن الرغبة المرضية فى الفوز بأى نقاش أو جدال مهما كلف الأمر.. وأكتفى هنا للتعليق على هذ المسلك بقول الأمام الشافعى رحمه الله : " ما جادلت أحداً إلا أحببت أن يظهر الله الحق على لسانه" ... ويا ليتنا نتعلم.
ولعل كل ماسبق ذكره قد حول مناقشاتنا الى جدل بيزانطى عقيم لا يسفر عن شىء.. بل أصبحت مناقشاتنا ساحات للحرب ومناسبات للتخوين والتكفير والتطاول.. وأصبح من المعتاد أن نرى مناقشة وهى تنقلب الى سب وقذف بل وضرب وتشابك بالأيدى والأقدام. وأصبح صوت الجهل أعلى من صوت العلم.. وأصبح العالم يقف عاجزا أمام الجاهل لا يملك جوابا.. وتحولت القصة كلها الى مباراة لصراع الديوك وأصبح صاحب الحق هو المنتصر بغض النظر عما يقوله وهل هو كلام معقول أو مقبول أولا.. فأن تنتصر فى أى مناقشة اذن فأنت على حق.. ولأننا نعرف أن العالم اذا جادل عالما غلبه (لأنه يلزمه الحجة)  بينما  لو جادل العالم الجاهل انهزم أمامه ( لأن الجاهل يكابر بغير علم)..فقد أصبح الأكثر شهرة وصوتا اليوم هم رؤوس الجهل الذين يملكون لسانا قوالا حادا وعقلا مظلما بليدا يجيد الحفظ لا الفهم.
بقى أن نقول ان العلم واحترام من يعلمون هو الحصن الأخير فى زماننا .. ولا أقصد بذلك أن نبحث عن من نسلم لهم عقولنا ونسير خلفهم كالبهائم . وأنما نعمل عقولنا فيما يحدث من حولنا ، ونمارس التفكير الذى قال عنه العقاد رحمه الله أنه " فريضة اسلامية".